تختلف بغداد في يوم الجمعة عنها كليًا في ايام الاسبوع الاخرى، حيث تمارس المدينة طقوسها المدهشة وتعيش مظاهر خاصة تجتمع فيها التناقضات والمفارقات وتترامى في ارجائها المتعة التي لا يستشعرها المواطن في باقي الايام.

بغداد: في جمعة بغداد وبالتحديد منذ الصباح الباكر تحدث اشياء يتجمد امامها الناظر اليها بكثير من الدهشة والتأمل والتمعن في مجرياتها التي تعد ظواهر غريبة ربما ليست لها شبيهات في مدن اخرى خاصة ان ما يحدث هو في مراكز مهمة تتمثل في مناطق مثل (الميدان) و (شارع المتنبي) وشارع الجمهورية وساحة التحرير في الباب الشرقي التي يتبدل حالها لتبدأ عندها التظاهرات الاسبوعية ضد الفساد والمفسدين التي صارت ديدن المحتجين منذ عدة اشهر.

الميدان.. سوق هرج

البدء من منطقة باب المعظم (شمالي بغداد)، ما ان تحل الساعة الثامنة صباحًا حتى يشهد الشارع، الذي تقف على جانبيه بنايتا وزارة الدفاع سابقًا والمكتبة الوطنية، مرور اعداد كبيرة من المواطنين على غير الايام الاخرى، كلها تذهب باتجاه منطقة الميدان التي يواجهك فيها سوق الهرج المفتوح على مساحات واسعة من الارض، وفيه تباع كل الاشياء العتيقة، والتي قد لا تخطر على بال وبأسعار متفاوتة بين اقل عملة نقدية وباهظة الثمن، أناس بالمئات يتجولون وباعة بالعشرات يروجون لبضاعتهم المستهلكة العتيقة وحركة دائبة للتمعن والاختيار، والاطرف بين ذلك كله ارتفاع اصوات الاغاني لمطربين ريفيين وشعبيين عراقيين مثل سلمان المنكوب وعبادي العماري وحسين سعيدة وداخل حسن، فضلاً عن اغاني ام كلثوم وفريد الاطرش وغيرهما من اجهزة قديمة تستخدم (الكاسيت) الذي مازال البعض يقتنيه، كما يمكن مشاهدة صور نادرة لملوك العراق والفنانين المصريين وملصقات الافلام وصور منها.

توقفت عند بائع التحف (ابو سمير) فقال: هكذا هو يوم الجمعة هنا، الاغلبية تخرج الى الشارع وساحة الميدان لعرض ما لديهم، والكثير ليس لديهم سوى يوم الجمعة لانهم من دون محال فتراهم يأتون ببضاعتهم ويبعثرونها عسى أن يجيء محتاج لها ويشتريها.

وأضاف: هناك الكثير من الناس يبحثون عن اشياء رخيصة وهناك من يبحث عن الانتيكات الغريبة والعجيبة فيجدونها هنا، لان هذا المكان قابل للتغيير اسبوعيًا، وكل من لديه حاجة يريد ان يبيعها يأتي الى هنا، ليس هنا من جديد أو حديث الا ما ندر بل كل عتيق وقديم ومستهلك وعاطل عن العمل، فلا تتعجب اذا ما شاهدت قمصاناً وبنطلونات للبيع ولا تتعجب اذا رأيت عملات قديمة للبيع أو حتى مسامير، اضافة الى عدد يدوية واغراض مختلفة.

في المكان ذاته تفوح روائح الاطعمة الشعبية الرخيصة مثل الرز (التمن) والمرق والكبة والفلافل وهي تستغل الرصيف بشكل ملفت.

شارع المتنبي.. كتب في كتب

على الطريق من الميدان باتجاه شارع الرشيد هناك العشرات من باعة الكتب والمجلات والجرائد القديمة، وهم يفترشون الارض على طرفي الشارع ونهره (كتب.. كتب.. كتب) حتى مدخل شارع المتنبي الذي إن دخلته ستصاب بالدهشة كون الشارع عبارة عن زحام رهيب، بشر وكتب على مد البصر، لا يوجد شبر من الارض لم يستغل، فيما المكتبات على جانبي الشارع هي الاخرى مفتوحة ومتخمة بالزبائن والاصدقاء، ومع التقدم يصبح الزحام أشد، وكل مكان حافل بالكتب ولا يمكن لاحد ان يقف لدقيقة واحدة من دون أن يعاني من موجة بشرية ترتطم به، بل ان الشارع ازداد الى بيع اشياء اخرى يحاول اصحابها استحصال ارزاقهم منها كالمشروبات غير الكحولية والشاي والاكسسوارات والقرطاسية وغير ذلك، وقد لا ترى ماشيًا في الشارع من دون ان يحمل كتابًا أو شيئًا آخر، فيما المشاهير من المثقفين والفنانين والاعلاميين ولاعبي كرة القدم لهم حضور يؤدي الى زيادة في الزحام من خلال التقاط الصور التذكارية مع الجمهور.

واذا ما وصلت الى نهاية الشارع ستجد منطقة (القشلة) التي تحولت الى مكان ترفيهي تجري فيه العديد من الانشطة الفنية والثقافية والاعلامية، فضلاً عن كونه ملتقى للعشاق والاحبة والاصدقاء حيث من السهل ان تشاهد عوائل كاملة بصغارها وبناتها، اعداد كبيرة من الناس يتوزعون في الساحات الخضراء أو في القاعات التي تقام فيها الفعاليات، ولا يبدأ اخلاء المكان الا بعد الساعة الواحدة ظهراً، حيث تبدأ الاعداد بالانسياب خارجاً حتى اذا ما حانت الساعة الثانية بعد الظهر لا ترى الا اصحاب الكتب وهم يجمعون اشياءهم ومن ثم يبدو الشارع خاليًا تمامًا تصفر فيه رياح الفراغ التي تعبث ببقايا نفايات يتركها بعض رواد الشارع.

تقول السيدة افتخار علي، ناشطة مدنية: صرت لا استطيع ان لا اجيء الى (المتنبي) واعتبر يوم الجمعة فيه طقسًا اسبوعيًا حتى انني اقول (في المتنبي يلتقي الرائعون) فلم يعد الشارع لبيع الكتب فقط بل مهرجان اسبوع تجري فيه نشاطات من كل نوع فهو واجهة الثقافة العراقية، وانا سعيدة كون الكثير من الناس صاروا يأتون بأولادهم وبناتهم، وهذا فيه تمرين على حب الكتاب.

وأضافت: هذه الاعداد الكبيرة تجعل من شارع المتنبي طقسًا جميلاً بل انها تمنح بغداد جمالاً مختلفاً في يوم الجمعة، فأنت ترى ان بغداد في يوم الجمعة عاطلة الا المتنبي الذي هو الوحيد الذي يجعل الحركة بركة في بغداد.

سوق الغزل.. طيور وحيوانات

خارج شارع المتنبي.. حيث شارع الرشيد الذي يبدو خاليًا تمامًا والشوارع التي حوله كذلك وحتى شارع الجمهورية لا يشهد من الحركة شيئًا، لان المنطقة التجارية الكبيرة المتمثلة بـ (الشورجة) مقفلة ولكن الملفت للنظر هو بالقرب من جامع الخلفاء حيث (سوق الغزل)، فالمشهد مثير للدهشة ومسيل للفضول ومدعاة للاستغراب، هناك الحركة غير اعتيادية منذ الصباح واغلب الطرق الفرعية تؤدي اليه، واغلب المتوجهين اليه يحملون اقفاصًا أو علباً كارتونية تحمل الطيور على الاغلب أو يحملون بين ايديهم حيوانات أليفة كالكلاب والقطط، فالسوق ينتعش برواده صباح كل جمعة فيما هو بقية ايام الاسبوع خامل، وهو سوق عجيب يشهد حضورًا ملفتًا وكبيرًا وغريبًا، حيث تحضر مختلف الحيوانات ابتداء من الدجاج والبط والحمام بمختلف انواعه بما فيه الزاجل والعصافير والصقور بأنواعها والكلاب على اختلاف اشكالها واحجامها، وهي مربوطة بسلاسل، فيما بعضها متوحش ومخيف، وفي السوق تشاهد الغزلان والارانب والقردة والذئاب والخيول والثعابين فضلاً عن اسماك الزينة واحيانا لا يستغرب المتفرج اذا ما شاهد جملاً يقف بسنامه العالي وهو يمارس الاجترار، لكن المثير هو العدد الهائل للحضور لاسيما من الصبيان والشباب، ومن الصعب في هذا المكان ان يمشي احد على راحته لأن كل الطرقات الصغيرة تغلق بالمتفرجين والبائعين وبالاقفاص المختلفة الاحجام التي تحتوي في بطنها الحيوانات فضلاً عن ان فيه يجري صراع الديوك الهراتية.

يقول اسماعيل شكر، احد رواد السوق: هذا السوق وجه من وجوه بغداد يوم الجمعة ومن اجمل اسواقها، بل انه يختلف عنها كلها، يزوره المئات من الناس للتفرج والاستئناس وكأنه حديقة حيوان مصغرة، وانا اجيء هنا دائما ابيع الطيور (الحمام) واستمتع بما اراه، ثم ان السوق يزوره الكثير من العرب والاجانب وتجد الناس فيه متعة.

وأضاف: الكثير يبيع ويشتري وينتظر ان يصيب ربحًا منه في الاسبوع المقبل، لكن ما يهمني اكثر هو انني ارى الناس سعداء وفرحين ويلمسون بأيديهم الحيوانات وبعضهم يخاف من الكلاب والافاعي ويضحكون لانهم يخافون وفي هذا متعة ايضًا.

الباب الشرقي.. هرج وجنس

وتشهد منطقة (الباب الشرقي) وسط بغداد يوم الجمعة ايضا حالة استثنائية تتمثل في (سوق هرج) ايضا الذي يقع على الجهة اليمنى لنصب الحرية الشهير بساحة التحرير، ولكن المساحة التي يمتد عليها طويلة تصل الى ساحة الخلاني حيث يكتظ المكان بشكل كبير تنزل معه الاشياء من الرصيف الى الشارع مع قلة عدد السيارات المارة.

وهنا ترى اشياء كثيرة تلفت الانظار اليها لكن ما يخص (الجنس) هو المثير هناك، ابتداء من حبوب الفياغرا الى (مراهم) و (حبوب) تحمل اعلانات واشعارات مذهلة عن فوائد هذه الادوية، وفيه تباع المسروقات والاشياء العتيقة والقديمة التي تمتلك مواصفات الجودة او الحنين الى الماضي، وتزدحم العربات و (البسطيات) وهي حافلة بالاغراض المختلفة كالملابس والساعات والراديوات والاجهزة الكهربائية المختلفة التي تعود موديلاتها الى سنوات مختلفة، فضلا عن الادوات الاحتياطية التي تشمل ابسط الاشياء وكل ما يحتاجه المواطنون وعشاق الانتيكات والخواتم والمسبحات، ويتميز هذا السوق بأنه يبيع ايضا كل ما هو جديد حيث تباع آخر موديلات الهواتف النقالة وملحقاتها ومختلف الاطعمة المعلبة والصابون بأنواعه والعطور والحلويات، والمكان يثير في النفوس العابرة الفضول الى تأمل الاشياء لاسيما العتيقة منها التي تثير الحنين في النفوس.

يقول محمد جاسم، احد الباعة في هذا السوق: السوق في يوم الجمع اكثر تميزًا، فالكثير من الاشياء التي تراها يوم الجمعة لا تراها في غيره فهو سوق اعتاد الناس ان يأتوا اليه لشراء ما يحتاجون اليه مما لا يخطر على بال ربما، من الابرة الى المجمدة، فهو سوق هرج ومرج واصبح يحتل مساحة واسعة بعد ان كان في مكان صغير، واليه الناس يأتون من كل حدب وصوب كما يقال وكل يشتري حاجته.

وأضاف: على الرغم من تعرض هذا السوق الى العديد من التفجيرات التي قتلت البشر والحيوانات الا انه ظل محافظًا على نشاطه وإن قلّ الحضور لكنه عاد ليكون واجهة جميلة لبغداد لا يمكن ان تلغى فهي مهرجان ساحر صدقني والاعداد تتزايد وانا احب الطيور واذا لم اجِئْ للسوق اسبوعيًا احس روحي تختنق.

الاحتجاجات.. مسك الجمعة

مسك ختام يوم الجمعة البغدادي هو التظاهرات التي ينظمها المحتجون العراقيون على الفساد والمفسدين والمحاصصة والطائفية، فبعد الظهيرة كل هذه الاسواق والشوارع تخلو من الناس ولكن سرعان ما يتدفق المتظاهرون من كل الشوارع التي تؤدي الى ساحة التحرير، حيث تمتلئ الساحة وتفيض الى الشوارع الاخرى، فيما الهتافات واللافتات تندد بالفاسدين وتطالب بمحاكمتهم وتنظيف البلد من الطائفيين، هنا في هذا المكان يرى المتظاهرون أن العرس الجماهيري والوحدة الوطنية تتجسد في ابهى صورها، وان يوم الجمعة صار اجمل بهذه التظاهرات.

يقول احمد لعيبي، ناشط مدني: صارت الجمعة اجمل في ساحة التحرير، صرنا لا نفارقها لان فيها يكون هتافنا ضد الفاسدين الذين اوصلوا البلد الى حالة يرثى لها، الجمعة في بغداد صارت تفتخر بنا لاننا نحترمها اكثر مما يحترمها الذين يدعون الخوف من الله.

وأضاف: نؤسس في يوم الجمعة تاريخًا جديدًا للعراق ونعانق نصب الحرية من اجل الحصول على الحرية وسنحصل عليها ونكتب في مذكراتنا اننا حاربنا القبح السياسي كله والفساد المالي والبؤس الذي يضرب المجتمع العراقي والفقر وعذابات الأطفال والنساء وانعدام ابسط الشروط الإنسانية المناسبة للعيش الكريم، نحن جعلنا من يوم الجمعة نافذة نقول منها للعالم اننا شعب متحضر، ولن نرضى ان يحكمنا فاسدون وطائفيون.