يواجه المستشارون أيامًا في حياتهم، حيث تكبر الهوة بين تألق الساحة السياسية من جهة، والفساد السياسي في أرض الوطن من جهة أخرى، وقد واجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يومًا مماثلًا الأحد الماضي.&

إيلاف من بيروت: قبل الساعة العاشرة صباحًا وفقًا للتوقيت المحلي، حطت طائرة المستشارة الألمانية في مطار هانغزو على بعد 20 مترًا من طائرة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، لتصل من بعدها طائرة الجامبو الخاصة برئيس الوزراء الياباني شينزو آبي.&

تفقد انتخابي
في ذاك الصباح الأيلولي (السبتمبري)، تحوّل مطار هانغزو إلى موقف خاص لمركبات السياسيين العالميين. فقد أتى القادة إلى المدينة الصينية من أجل حضور قمة مجموعة الـ20 المنعقدة لمدة يومين.&

وفيما كانت ميركل تمشي بخطوات ثابتة نحو سيارة الانتظار بين جنود يحملون حرابًا ثابتة، كانت تواجه يومين حافلين. فقبل أن تبدأ القمة حتى، عقدت اجتماعًا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمناقشة المسائل الاعتيادية نفسها: سوريا، واللاجئين، والدولة الإسلامية. ثم توجهت مسرعة نحو مركز إكسبو للقاء القادة العالميين الآخرين، حيث تمحور الاجتماع حول التدابير التحفيزية المحتملة للاقتصاد العالمي، وبعد تناول العشاء في الساعة السابعة مساء انطلقوا في جولة على متن القارب في يو ليك Yue Lake لتلتقي ميركل بعدئذ بالرئيس فلاديمير بوتين، بهدف حثّه على إيقاف تدخّله المستمر في أوكرانيا.&

أخيرًا، عند الساعة 11 مساء، أمسكت هاتفها، ليس لإجراء مكالمة حول سوريا أو الحرب الأوكرانية أو الاقتصاد العالمي مع نظراء أوباما أو أردوغان أو هولاند، بل من أجل تفقّد وضع الانتخابات في ولاية مكلنبورغ فوربومرن الألمانية التي كانت تجري آنذاك. فاتصلت بـ"هورستسيهوفر"، رئيس حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، وهو الحزب الشقيق للحزب الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه ميركل.

بداية انعطافة؟
كانت لا تزال الساعة الخامسة مساء في ألمانيا وصناديق الاقتراع لم تقفل بعد، لكنّ كل التوقعات كانت تسلك الاتجاه الكئيب نفسه، نحو نتيجة تشير إلى انتصار اليمين الشعبوي الألماني "البديل من أجل ألمانيا". وعلى الرغم من تحالفه السياسي مع ميركل، فسيهوفر كان من أبرز نقّاد سياسة اللاجئين، التي اعتمدتها ميركل، والتي شكّلت سببًا لهزيمتها في وجه حزب "البديل من أجل ألمانيا".&

حاولت ميركل تهدئة حليفها على الهاتف، ثم صرّحت بكل بساطة: "لا يمكنني أن أقول شيئًًا في الوقت الحالي، أنا عاجزة عن الكلام". أنهت المكالمة وهي تعلم أنّ رئيس حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي لن يتركها بسلام.

إنّها دراما لا مثيل لها. فمنذ سنة، كانت ميركل أكثر شعبية من أي مستشار سابق، خصوصًا بسبب سياستها الخارجية الحذرة. ثم حلّت أزمة اللاجئين، واتّهام ميركل باتّباع نوع من الإمبريالية الأخلاقية في أوروبا.&

تخلّى عنها حلفاؤها في ألمانيا، فبدأ حزب "البديل من أجل ألمانيا" يكسب التأييد، مع أنّها كانت تظنّ أنّها سبق وهزمته، فنال في ولاية مكلنبورغ فوربومرن نسبة أصوات أعلى من الحزب الديمقراطي المسيحي، وللمرة الأولى في تاريخ ما بعد الحرب في ألمانيا، انتصر حزب اليمين الشعبوي على اليمين الوسطي.&

تحدّ وجنون
يبدو أنّ ميركل مصممة على خوض الانتخابات مجددًا، مع أنّ الشكوك تزداد في صفوف المحافظين الألمان حول ما إذا كانت هذه الفكرة جيدة. لم تحصل حتى اليوم ثورة مفتوحة، لكنّ مزيجًا من التحدي وجنون العظمة يتفشّى في المستشارية، ليذكّرنا بالأيام الأخيرة للمستشار هيلموت كول، الذي دام حكمه 16 عامًا.&

في يوم الجمعة الماضي مثلًا، نشر موقع شبيغل الألماني خطط الحكومة لتنأى بنفسها عن مشروع قانون سيمرّر على البرلمان الألماني، وهو قرار تصنيف مذبحة الأرمن على أنّها إبادة جماعية.&

كانت الحكومة حذرة تجاه تفاقم التوتر في العلاقات بين برلين وتركيا، لكنّ الكثيرين اعتبروا هذه الخطوة هي خضوع لأردوغان، ما أدّى إلى تموجات مباشرة، وأثار غضب ميركل. كانت الخطة أن يقوم شتيفن زايبرت الناطق الرسمي باسمها، بعقد مؤتمر صحافي لإعلان موقف الحكومة. فاتّصلت فورًا بوزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير، وهو عضو بارز في حزب اليسار الوسطي المتحالف معها، واتهمته وحزبه بتسريب هذه المعلومات، بهدف تشويه صورتها.

اللاجئون أغرقوها
هل من الممكن أن تنجح ميركل في وضع حدّ &لتلاشي سلطتها؟.. كان الكثيرون من أسلافها مستعدّين للمخاطرة بمنصبهم من أجل الدفاع عن قناعاتهم. فهيلموت شميدت مثلًا وافق على تمركز الصواريخ النووية متوسطة المدى في غرب ألمانيا، على الرغم من معارضة حزبه (الحزب الديمقراطي الاجتماعي)، وكذلك غيرهارد شرودر في ما يخص الإنفاق على خدمات الرعاية الاجتماعية.

في هذا الإطار، كان قرار ميركل في الرابع من سبتمبر 2015، الذي اقتضى فتح الحدود الألمانية أمام اللاجئين المحتجزين في هنغاريا، ضربًا بطوليًا، وبدت ميركل المعروفة بترددها الدائم، جاهزة لإنفاق رأس المال السياسي، الذي جمعته طوال سنوات، من أجل قناعاتها. كانت خطوة شجاعة نالت احترام العالم بأسره.

لكنّها في الأسابيع والأشهر اللاحقة، لم تتمكّن من إيجاد طريقة لفرض النظام على تدفق اللاجئين إلى البلد، ما أدى إلى ازدياد العدوانية، ليس في أوروبا فحسب، بل أيضًا في صفوف الشعب الألماني. وقد ساعد ذلك على نمو اليمين الشعبوي الألماني، حزب "البديل من أجل ألمانيا"، فأصبح لديه 9 ممثلين في البرلمان الأوروبي، علمًا أنّ شعاراته الحادة جعلت إقامة جدل عقلاني حول الهجرة أمرًا شبه مستحيل، على الرغم من حاجة ألمانيا الماسّة إليه.&

ضرورة تغيير المسار
يبدو البلد في حالة شلل. وبنظر ميركل، أصبحت سياسة اللاجئين من جوهر ولايتها الاستشارية، فهي تمثّل لحظة لم تسمح لنفسها فيها أن تنساق وراء الاعتبارات التكتيكية السياسية. لكنّ هذا يقيّد قدرتها على المناورة، لأنّها إذا اعترفت بأنّها اقترفت خطأ، سيكون الأمر أقرب إلى خيانة الذات، ما يجعل المأزق الحالي وضعًا ميؤوسًا منه.

حين صدرت نتائج انتخابات ولاية مكلنبورغ فوربومرن، شعرت ميركل بضرورة الإدلاء بتصريح، مع أنّها كانت لا تزال في قمة مجموعة الـ 20 في الصين، لكنّها فضّلت عدم التعليق على سياسة الحزب المحلي، لأنّها تتكلّم بصفتها رئيسة للحزب، وليس مستشارة للبلاد، لذلك، وبعد المؤتمر الصحافي الخاص بقمة مجموعة الـ 20، الذي أقامته في Hyatt، بدأ فريق عملها بإزالة كل الرموز التي تذكّر بدورها كمستشارة، من ضمنها الستار الخلفي الخاص بالقمة ورايات الصين وألمانيا وأوروبا، حتى إنّ المتحدث باسمها سيبرت اضطر إلى المساعدة.

بالطبع، عبّرت ميركل عن استيائها الشديد من نتائج انتخابات الولاية، وعندما سألها أحد المراسلين إن كانت ستبدّل مسارها الآن، لم تتمكن من مقاومة رسم ابتسامة متكلّفة، وأجابت قائلة: "أنا سعيدة بتكرار فكرة أنني أعتبر القرارات الجوهرية التي اتخذناها في الأشهر الماضية صحيحة".&

هل سيعيد التاريخ نفسه؟
عادة، تميل المراحل الأخيرة من ولاية المستشار إلى أن تكون متعرّجة. لم يكن كونراد أديناور يريد مغادرة منصبه، لأنّه ظنّ أنّه الوحيد القادر على قيادة البلد، فلم يتنحّ إلا بعد 14 سنة أمام لودفيغ إرهارد.&

كذلك، قاوم هيلموت كول التقاعد، لأنه ظنّ أنّه الوحيد الذي سيدعم العملة المشتركة في أوروبا، حتى إنّه كان مقتنعًا بأنّ التاريخ يحتاجه، فتجاهل كل تحذيرات خسارته، ما أدى إلى غرق حزبه معه في انتخابات العام 1998.&

هل سيعيد التاريخ نفسه اليوم؟... لطالما كانت ميركل سريعة البديهة. ففي حملتها الأولى كمستشارة، وعدت بإجراء إصلاحات جوهرية في ألمانيا، لكنّها حين خسرت بفارق بسيط في انتخابات 2005، ضاعت خطتها الطموحة في أرشيفات الحزب. وكذلك، اختفت وعودها بتمديد فترة حياة المفاعلات النووية الألمانية بعد التسونامي في اليابان وكارثة فوكوشيما.

على أثر هذه المواقف تمّ اتهامها بالانتهازية. ولكن لا يمكن لأي مستشار البقاء في المكتب لفترة طويلة بدون إظهار قدر من الليونة. في الواقع، خضعت سياسات ميركل للمراجعة: فقامت أوروبا الشرقية بإقفال طريق البلقان، وأكّدت ميركل شخصيًا على قيام حرّاس الحدود التركية اليوم بإيقاف اللاجئين الذين ينوون شقّ طريقهم إلى أوروبا.&

وهي تستمرّ في الإصرار على أنها لم ترتكب أي خطأ، مع أنّ تصرّفاتها تشير إلى العكس، حتى إنّها لم تأبه لمساعدة حزبها قبل أسبوع من إجراء الانتخابات، ولم تفكّر سوى في اللجوء إلى وسائل إعلام مثل SüddeutscheZeitung وBild لتدافع عن قراراها بمساعدة اللاجئين، تمامًا كما فعل كول في آخر أيام ولايته، وكما في ذلك الوقت، لم يتجرّأ على إظهار معارضة عنيفة إلا نواب الحزب الذين لا يملكون سوى القليل ليخسروه.

نقد داخلي
الإثنين الماضي، انضمت ميركل إلى مؤتمر هاتفي مع القادة الآخرين في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. وبسبب سوء الإرسال في الصين، كان من الصعب فهم ما تقوله، لكنّ جوهر رسالتها كان واضحًا: قد تكون نتائج الانتخابات مؤسفة، لكنّها لا تنوي تعديل أي من سياسات اللاجئين التي اعتمدتها، فالحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني خسر أصواتًا أكثر من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.&

لم يوافق الجميع على هذا التحليل. وبحسب عضو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي يحتل منصب وزير الدولة للشؤون المالية ينس شبان، ففي ما يتعلّق بسياسة اللاجئين، لقد خسروا جميعًا أمام حزب "البديل من أجل ألمانيا"، بمثابة كتلة واحدة يريد ناخبو الحزب الفائز أن يقول لها: "لا شكرًا".&

يضيف: "بدلًا من أن نقول نستطيع النجاح، ينبغي أن يفكّر حزبنا كيف يمكننا أن نصل إلى نقطة حيث يصبح الشعب مؤمنًا بأننا نستطيع النجاح، وحيث نعرف ما الذي يجري بالتحديد". كما إنّ "شبان" يعتبر أنّ الناس محقّون في التساؤل "لماذا سيعمل الدمج اليوم بشكل أفضل من السابق". وهو يعتبر أنّه ينبغي التواصل مع الناخبين على المستوى العاطفي، وليس العقلي فحسب: "إذا أجبنا بأننا نريد منع البرقع بطريقة تعوزها الحماسة، فلن تصل رسالتنا إليهم".

في الواقع لا أحد ينتقد سياسات المستشارة الألمانية بقدر "شبان"، لكن تجدر الإشارة إلى أنّه حتى ضمن صفوف معسكر ميركل، ثمة بعض الأشخاص الذين ينوون الاعتراف بارتكاب أخطاء. فوزير الداخلية توماس دي مايتسيره مثلًا، ينتقد واقع أن المحافظين يتحدّثون كثيرًا عن اللاجئين، ولا يتناولون المسائل الأخرى بشكل كاف. &

ليست المشكلة أنّ ميركل لا تحاول إيجاد طريقة للخروج من الأزمة. فهي بالفعل منفتحة على كل الأفكار. وفي رحلة العودة من قمة مجموعة العشرين، سُئلت ميركل عمّا إذا كانت قلقة حول وصول السياسة إلى حقبة مرحلة ما بعد الوقائع، حيث تمكّن حزب "البديل من أجل ألمانيا"، أو سياسيون، مثل دونالد ترامب، من النجاح، من خلال استخدام شعارات لا تمتّ إلى الواقع بأي صلة، أجابت ميركل، وفي عينيها نظرة استفسار، أنّها تحتاج أولًًا إدخال مصطلح "ما بعد الوقائع" إلى قاموسها.&

لكن كان من الواضح أنّ هذا المصطلح قد أطلق العنان لمخيّلتها. وبعد يومين، في خطاب أمام البرلمان، لفتت المستشارة الألمانية قائلة: "عندما نبدأ بالمشاركة في وضع تمّ فيه التخلي عن الوقائع، فالإجابات المسؤولة والبنّاءة تصبح مستحيلة. عندما نؤيّد لغويًا وحرفيًا، الأشخاص الذين لا يهمّهم إيجاد الحل، فسنخسر توجّهنا في نهاية المطاف".&

أعدّت "إيلاف" هذه المادة نقلًا عن موقع شبيغل الألماني&

يمكنكم قراءة المادة الأصل عبر الرابط التالي:
http://www.spiegel.de/international/germany/refugee-policy-sees-waning-of-power-for-merkel-a-1111668.html