بعد فترة من الظلام بسبب وقوعها تحت حكم داعش، عادت الموضل أم الربيعين إلى سابق عهدها الثقافي والتراثي، وعادت تماثيلها إلى الانتصاب بعدما دمرها الدواعش.

الموصل: عند غروب الشمس يتوافد العديد من سكان الموصل لإلقاء نظرة على تمثال مهيب مطلي باللون الذهبي لامرأة تتأمل المدينة المنكوبة التي تحررت قبل ثلاث سنوات من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف.

والنصب واحد من ستة أعمال نحتها فنانون من المدينة الواقعة في شمال العراق ودمرها التنظيم الإسلامي المتطرف حين سيطر عليها بين 2014 و2017 وجعلها "عاصمة" فرض فيها قوانينه الجائرة ونفذ فظائع بكل من حاد عنها.

ولكن فريقاً من النحاتين الشباب يضم محمد نزار وعمر الخفاف ونزار عبد اللطيف وخالد العبادي وعمر ابراهيم، عمل على إعادة إحياء التماثيل التي دمرتها أيدي التطرف سعياً منهم إلى مساعدة سكان المدينة على نفض ذكريات الظلم والقهر الوحشي والعقوبات الفظيعة التي كانت الساحات العامة مسرحا لكثير منها، وعاثت في مدينتهم خرابا.

واليوم يشغل تمثال "سيدتي الجميلة" منذ 2018 موقعاً أحاله المتطرفون ساحة لقطع الرؤوس والأيدي والجلد والرجم، بحق كل من خالف تعاليمهم.

ويقول عمر إبراهيم وهو يقف قرب عمله لوكالة فرانس برس "حاولت عبر نصب التمثال في هذه الساحة محو الصورة المظلمة المرعبة من قتل وذبح وجلد من أذهان الناس واستبدالها برمز للجمال والانتصار على الإرهاب".

شرع النحات البالغ من العمر 35 عاماً بالعمل على التمثال في ظروف غاية الخطورة، عندما كان الجهاديون لا يزالون يسيطرون على المدينة، فكان يعمل عليه في قبو سري تحت الأرض.

ودمر التنظيم بعد سيطرته على الموصل في صيف 2014 جميع التماثيل وعمد مسلحون إلى سرقة المواقع الأثرية التي تعكس هوية وتراث مدينة الموصل، بحجة أن التماثيل أصنام يحرمها الإسلام.

وكانت تلك الأفعال الهمجية ضربة قاسية للموصل التي اشتهرت على مدى قرون كمركز ثقافي للأدب والموسيقى والفنون.

كانت الموصل تحتضن ستة تماثيل أبرزها "فتاة الربيع" الذي يجسد شابة تحمل باقة من الزهر والهواء يتلاعب بشعرها وملابسها.

فالموصل تحمل لقب "أم الربيعين" لجمال وطول موسم الربيع فيها.

وتوصل فنانو الموصل إلى إعادة نحت تمثال شبيه بالتمثال الأصلي يقف اليوم أمام مبنى خرقت واجهته القنابل والرصاص.

وأستطاع فريق الفنانين، بعد أشهر من العمل المضني، إكمال مشروع نحت نسخة جديدة لتمثال "بائع السوس" الذي أنجزه في سبعينيات القرن الماضي النحات الموصلي طلال صفاوي، وكان يقف عند دوار السواس، في غرب الموصل، كأحد المعالم الفولكلورية التي كانت تزين المدينة.

وأعادوا كذلك نحت تمثالي الشاعر أبو تمام والعازف الموهوب الملا عثمان، ليعودا إلى مكانهما في غرب الموصل.

ولكن الفنانين نحتوا التماثيل الجديدة في الإسمنت المسلح فيما كانت التماثيل الأصلية مصبوبة من البروز.

ويقول فارس محمد، المسؤول في أمانة الموصل "هناك نية لاستحداث تماثيل أخرى ترمز لشخصيات موصلية تأريخية كانت لها بصمة في حياة المدينة بينها العالم أبن سينا"، الطبيب المعروف عبر التأريخ.

ويرى الباحث في شؤون التأريخ والتراث زياد الصميدعي أن "هذه النصب تعبر عن رمزية مدينة الموصل وهويتها الثقافية وحياتها ومهنها وفصولها وخصوصاً جمال ربيعها الذي عبر عنه تمثال فتاة الربيع".

لم يعد سوى القليل من تاريخ الموصل الثري مرئياً اليوم، فبالاضافة للخراب الذي أحدثه تنظيم الدولة الإسلامية، تعرضت البنية التحتية للمدينة للدمار خلال المعارك التي استمرت عدة أشهر لاستعادتها، وخصوصا الجانب الغربي منها.

فلا يوجد في المدينة اليوم سوى مستشفى عام واحد فيما لا يزال الحصول على الكهرباء والماء أمراً نادراً، عدا عن انتشار المباني المدمرة التي يتنقل بينها الأطفال للوصول الى مدارس قليلة أعيد فتحها.

كما أنخفض مستوى معيشة سكان في الموصل فاضطر خلال السنوات الأخيرة مئات الآلاف من النازحين من أهالي الموصل للعيش في مخيمات بدلاً من العودة لمناطقهم.

وللحصول على لحظات هادئة، يلجأ البعض إلى الجلوس قرب هذه التماثيل كل مساء.

وتعبر هديل نجار (30 عاما) عن سعادتها بعودة الحياة تدريجيا إلى مدينتها مبدية أملها بعودة النازحين من أهاليها.

وتوضح لفرانس برس، أن "نصب التماثيل ضروري لأنه جزء من إعادة الحياة للموصل المنكوبة".

لكنها ترى أن هناك "تلكؤاً في التعويض على المتضررين وإعمار البنى التحتية المدمرة، وقد أثر هذا سلبا على عودة الاهالي الى بيتوهم ومحالهم لاستئناف دورة حياتهم".