لم يعد بيع الصحف مهنة مربحة بالنسبة لنادية، مثلما كان قبل نحو عقد من الزمن. فلا تستطيع المرأة الخمسينية أن تفي بأبسط متطلبات الحياة إلا بشق الأنفس.

تشكو نادية، الأرملة والأم لست فتيات، من الارتفاع المطرد للأسعار الذي يحمل فقراء المصريين بما لا يطيقون. تخبرني أنها لم تشتر اللحم منذ ثلاث سنوات تقريبا.

وتضيف: "قبل بضع سنوات، كان إعداد وجبة يكلف ما بين 60 إلى 70 جنيها مصريا، اليوم لا تقل تكلفة إعداد وجبة واحد عن 300 أو 500 جنيه (ما يتراوح بين 10 دولارات و16 دولارا تقريبا)"

لا صوت يعلو الآن على صوت الشكوى من تدهور الأحوال المعيشية، وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بأنين الناس من الأزمة الاقتصادية، تجري انتخابات الرئاسة التي يخوضها الرئيس عبدالفتاح السيسي للمرة الثالثة على التوالي.

"لا أحد يرانا"

لم تشتر نادية اللحم منذ ثلاث سنوات
BBC

قبل أكثر من عشر سنوات كانت نادية تبيع حوالي مائتي صحيفة يوميا، أما الآن فبالكاد تبيع عشرين صحيفة في اليوم. فقد تآكل دخلها على مدار السنوات في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق.

في منزلها المتواضع بأحد أحياء القاهرة الفقيرة تحدثني نادية، وهي منهمكة في غسيل الأواني في مطبخها الصغير، فتقول "أحيانا أخاف أن أخلد للنوم لأنني أعلم تماما أنني سأصحو في اليوم التالي لأجد الأسعار ارتفعت عما كانت عليه".

ومنذ مارس/آذار الماضي فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته أمام الدولار، ليزدهر، بالتبعية، نشاط السوق السوداء للعملة الأجنبية في مصر، لأول مرة منذ سنوات طويلة.

وسجلت معدلات التضخم ما يزيد على 38 في المئة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ما يمثل تراجعا طفيفا عن معدلات سبتمبر أيلول الماضي حين وصلت المعدلات إلى نحو 40 في المئة. ولم تعرف مصر، بلد المئة مليون مواطن، أرقاما مرتفعة بهذه الصورة من قبل. وعادة ما تكون نسب التضخم على أرض الواقع أكثر سوءا مما تكشف عنه البيانات الحكومية.

تخاف نادية على مستقبل بناتها الستة، بعد أن فقدت كل ما لديها من تفاؤل بشأن الغد. وتوضح "غلاء الأسعار ابتلع مستقبلنا. فلا أحد يرى الفقراء أو يهتم لأمرهم. إننا منسيون."

تبيع نادية اليوم بالكاد 20 صحيفة مقابل مئتي صحفية قبل 10 سنوات
BBC

الإنفاق الحكومي

منذ صعود السيسي للحكم في عام 2014، أنفقت الدولة مبالغ طائلة على مشروعات البنية التحتية مثل بناء الجسور وتوسعة الطرق، فضلا عن إنشاء عاصمة جديدة تكلفت مليارات الدولارات ولاتزال غير مأهولة بالسكان.

ويرى منتقدون أن هذا التوجه استنزف ميزانية البلاد. كما أنه أسرف في الإنفاق على مشروعات لا تحتل أولوية لدى المواطن المصري الذي يحتاج بشكل ملح لرفع مستوى التعليم والرعاية الصحية.

ومنذ عام 2016، اقترضت مصر ما يزيد على 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. ومع قروض صندوق النقد جاء تخفيض قيمة العملة المحلية بالإضافة إلى رفع الدعم الحكومي عن عدة قطاعات حيوية مثل الوقود، وهو ما أدى إلى أن تقفز الأسعار بشكل أثقل كاهل العائلات المصرية بأعباء مالية ضخمة. كما توسعت الدولة، في السنوات الأخيرة، في الاستدانة من عدة جهات إقليمية ودولية ما تسبب في تعاظم حجم الديون الخارجية.

لكن الدولة تقول في المقابل إنها عمدت إلى تطبيق برنامج إصلاح اقتصادي يشمل الاستثمار بشكل مكثف في برامج الحماية الاجتماعية التي ترعى الفئات الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع.

ويرجع وليد جاب الله، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع، التعثر الاقتصادي، بالأساس، لأسباب خارجية مثل الغزو الروسي لأوكرانيا ووباء كورونا.

ويقول "جاء وباء كورونا ليلتهم كل المدخرات الناتجة عن الإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها الحكومة، ثم ما أن اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية حتى خرجت مليارات الدولارات المعروفة باسم الأموال الساخنة من القطاع المصرفي المصري بعد أن سحب المستثمرون الأجانب أموالهم من البنوك."

ويضيف جاب الله، الخبير الاقتصادي، أن مشروعات البنية التحتية أسهمت في توفير فرص عمل ومعالجة أزمة البطالة وجعلت حياة الناس أسهل، على حد قوله. ويؤكد أن هذه المشروعات ستنجح في جذب الاستثمارات الأجنبية التي تحتاجها البلاد بشدة، بسبب ما تعانيه من شح في النقد الأجنبي.

هل يتغير شيء؟

تأمل نادية أن تتمكن من مساعدة ابنتها الصغرى على إتمام تعليمها الجامعي، وتخبرني أنها تحاول دائما القيام بعدة أعمال بجانب بيع الصحف لتؤمن لبناتها ما يحتاجون. فهي لا تستطيع أن تتحمل كلفة التوقف عن العمل ولو ليوم واحد، رغم أنها قاربت سن التقاعد.

وعلى مقربة من حيث تقف نادية لبيع الصحف في أحد شوارع القاهرة، تنتشر لافتات الدعاية الانتخابية التي تحمل صور الرئيس المصري وتعد المصريين بأن القادم أفضل. لكن كثيرين يخشون أن يشهدوا أياما أكثر تقشفا. فهناك مخاوف من أن تشهد الشهور المقبلة تخفيضا جديدا لقيمة العملة المصرية. ولا مؤشرات، حتى الآن، على أن الأزمة الاقتصادية في طريقها إلى الحل.