محمد حنيف: كان من المفترض أن تتمخض عن الانتخابات الباكستانية الأخيرة فترة من الاستقرار الذي كانت البلاد بحاجة ماسة إليه، لحل مشكلة التضخم الذي شل عجلة الاقتصاد وللقضاء على الانقسامات السياسية المريرة التي تخيم على المشهد في البلاد.

وبدلاً من ذلك، نتج عنها تشكيل حكومة أقلية مكونة من ائتلاف هش ومتردد، يبدو وكأنه غير واثق من صلاحياته.

وبعد أسبوعين من الانتخابات، أعلن كل من الرابطة الإسلامية الباكستانية، بقيادة رئيس الوزراء السابق نواز شريف، وحزب الشعب الباكستاني بقيادة بيلاوال بوتو، أنهما سيشكلان حكومة، لكن حزب الشعب الباكستاني لن يكون جزءاً منها.

كان هذا الإعلان الذي صدر، منتصف الليل، من قبل زعماء الحزبين تخيم عليه نبرة قاتمة، وبدا وكأنه حفل زفاف أُقيم تحت تهديد السلاح.

وفجأة، أصبحت باكستان تلك الدولة الديمقرطية الفريدة التي لا يرغب فيها أحد بأن يكون رئيساً للوزراء.

وكانت "المؤسسة"، وهو التعبير المخفف الذي تستخدمه وسائل الإعلام المحلية للإشارة إلى المؤسسة العسكرية الباكستانية القوية، تعتقد دوماً أن الانتخابات العامة ممارسة بالغة الحساسية لا يمكن تركها للساسة المدنيين.

وقد كشفوا النقاب هذه المرة عن قواعد اللُعبة الانتخابية القديمة واستخدموا كل الحيل التي كانوا يحيكونها بنجاح في الماضي.

فقد أودع المنافس الرئيسي في الانتخابات، عمران خان، في السجن، ويواجه أكثر من 150 تهمة جنائية ومدنية، نفاها جميعاً.

وقبل أسبوع من إجراء الانتخابات، حكم عليه في ثلاث قضايا - اتُهم في إحداها بالزواج على عجل. واُضطر حزبه، الذي حُرم من خوض الانتخابات ومن تشكيل ائتلاف، إلى خوض غمار الانتخابات كحزب مستقل.

حكم جديد بسجن عمران خان 14 عاماً بعد يوم من سجنه لعشرة أعوام

عمران خان: ما الذي نعرفه عن رئيس الوزراء الباكستاني السابق؟

وكان كثيرون من أعضاء حزب خان يتهربون من مداهمات الشرطة بدلاً من القيام بحملات انتخابية في دوائرهم الانتخابية، وبُرئ خصومه الرئيسيون من العديد من القضايا المرفوعة ضدهم وأُطلق العنان لهم لإطلاق حملاتهم الانتخابية.

وقد أُغلقت وسائل التواصل الاجتماعي وانقطعت خدمات الهواتف المحمولة يوم الانتخابات، ظاهريا لأسباب أمنية.

لكن في واقع الأمر، كان السبب هو ضمان عدم وصول أنصار خان بسهولة إلى مراكز الاقتراع، ومن ثم يجدون صعوبة في العثور على أسماء مرشحيهم المكتوبة على بطاقة التصويت.

وقد أظهر أنصار خان براعة ملحوظة، وأنشأوا مجموعات على تطبيق واتساب و تصفحوا تطبيقات ومواقع إلكترونية بين عشية وضحاها، ووصلوا إلى مراكز الاقتراع وتمكنوا من العثور على مرشحيهم.

واستخدم حزبه الخطب التي كتبت بواسطة الذكاء الاصطناعي لنقل رسالة زعيمهم المسجون. وحُول رقم هوية سجن عمران خان إلى شعار انتخابي.

لقد أداروا حملاتهم بأسلوب حرب العصابات وأحدثوا مفاجأة في يوم التصويت.

وعلى الرغم من كل الادعاءات ضده بالتزوير، فإن حزب "تحريك الإنصاف الباكستاني" الذي يتزعمه خان لا يزال يظهر كأكبر حزب مستقل في الانتخابات .

لقد كانت موجة خان في يوم الانتخابات أقوى من أن يتم كبحها عن طريق التزوير الروتيني.

إذ استخدمت المؤسسة العسكرية تكتيكات القرن العشرين لترويض جيل بارع في استخدام التكنولوجيا الرقمية، لكنها خسرت.

ولمواجهة مكائد هذه المؤسسة المُجربة والمُختبرة، كان رد الناخبين مهذباً ومتحدياً: شكراً لكم، لكننا لسنا جاهلين وأميين كما تظنون! قد لا نكون قادرين على النزال معكم في الشوارع. فأنتم تمتلكون أسلحتكم، لكن هذا هو ختمنا على بطاقة الاقتراع. افعلوا ما شئتم بها!

الُمحرض المُحنك

لم يحصل عمران خان على أغلبية بسيطة في البرلمان، ورفض التحالف مع أي أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة وقرر الجلوس في المعارضة.

لقد أسس حملته الانتخابية وبني شخصيته الجذابة من خلال تصوير خصومه على أنهم فاسدون.

وهو يكره تقاسم السلطة مع السياسيين الذين هاجمهم خلال معظم حياته السياسية.

لقد اضطر معظم السياسيين الباكستانيين إلى قضاء بعض الوقت في السجن في مرحلة ما. لكن لا يبدو أن أحداً استمتع بحياته أكثر من عمران خان.

وعلى الرغم من حرمانه من جميع المنصات العامة للتواصل مع مؤيديه، فإنه حقق فوزاً انتخابياً من داخل زنزانته في السجن من خلال بيانات أرسلها عبر محاميه وعائلته المقربة.

وفي مايو/أيار الماضي، عندما أُلقي القبض على عمران خان للمرة الأولى بعد إقالة حكومته، قام أنصاره بأعمال شغب، وهاجموا معسكرات الجيش.

وأُحرق منزل أحد كبار جنرالات الجيش، وتمكن بعض مثيري الشغب من دخول مقار الجيش.

كانت حملة القمع التي تلت ذلك سريعة ووحشية.

إذ اخُتطف معظم القيادات العليا لحزب "تحريك إنصاف" وُضغط عليهم للتخلي عن عمران خان، حيث أدان البعض سياساته، بينما ترك آخرون السياسة مدى الحياة.

وقد أرادت المؤسسة إرسال إشارة واضحة مفادها أن عمران خان وحزبه قد انتهوا. ومع وجود خان في السجن، ومع اقتراب موعد الانتخابات، تم الاستيلاء على الحزب من قبل قيادات الصف الثاني وأشخاص محليين يؤمنون بالحزب، وقد لعبوا دوراً حاسماً في تنظيم حملة للحزب لتحقيق النصر له.

لقد كانوا على يقين من أن زعيمهم لن يُسمح له بالعودة إلى السلطة. لكنهم أظهروا من خلال تصويتهم، أنهم لن يتخلوا عنه لمجرد أن الجيش يريدهم فعل ذلك.

وعندما كان عمران خان خارج السلطة، أصبح "ملك الفوضى" وأطلق غضبه ليس فقط على خصومه السياسيين، بل على مؤسسة الجيش أيضاً.

وقد أدعى عمران خان، في خطاباته قبل إلقاء القبض عليه وإبعاده، أنه أُُطيح به بناء على طلب من الولايات المتحدة لاتباعه سياسة خارجية مستقلة.

ويقول خصومه إن كل سياساته أثناء وجوده في السلطة كانت تتعلق فقط بغروره ونزواته.

ويقولون إنه عندما كان في السلطة، أمضى وقتًا في مطاردة معارضيه أكثر من الوقت الذي قضاه في إدارة البلاد. ويقولون أيضا إنه عندما كان في الحكومة، بدا مشتتًا وفشل في اتخاذ قرارات في الوقت المناسب لكبح جماح التضخم الجامح.

وحتى عندما كان في الحكومة بدا وكأنه سياسي معارض، غاضب من أعدائه السياسيين ووسائل الإعلام. كما أنه مُحرض مُحنك.

وعندما خسر حزبه انتخابات عام 2013، شن، بلا هوادة، حملة لإلغاء النتائج وفرض حصاراً على العاصمة إسلام آباد.

لقد كان قادراً على القيام بذلك بدعم من المؤسسة العسكرية. والآن بعد أن أصبح العدو الأول للمؤسسة، فإنه يشعر بالبهجة بعد أداء حزبه في صناديق الاقتراع.

لقد قرر حزبه الانضمام إلى المعارضة، لكن عمران خان يحب ممارسة سياساته ليس في البرلمان ولكن في الشوارع، من خلال التجمعات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي.

ويُطلق بالفعل على الحكومة الحالية لقب "تحالف الخاسرين"، وهو حرفياً ائتلاف من الأحزاب التي تعرضت لهزيمة ساحقة على يد خان في الانتخابات.

وبعد أسبوعين من ظهور النتيجة، لم يكن هناك أي حماس لتشكيل حكومة بين معارضي خان.

وللمرة الأولى، أصبح السياسيون البارزون مترددين في تحمل المسؤولية بدلاً من التشبث بالسلطة.

وكان هناك إحجام عن المشاركة في الحكم لأن باكستان تواجه أزمة ديون طاحنة. كما أن ارتفاع أسعار الوقود والغذاء جعل الحياة لا تطاق بالنسبة للطبقات العاملة.

ومع الدور المتزايد الذي يلعبه الجيش في مجالات الحكم كافة، فقد اضطر الساسة الحاكمون إلى التجول حول العالم لمطالبة المانحين الدوليين بتقديم حزمة إنقاذ مالية.

وقد تكهن الكثيرون بما إذا كان الوقت الذي يقضيه عمران خان في السجن سيجعله سياسياً أكثر نضجاً.

لكن يبدو أنه من غير المرجح حدوث ذلك.

لقد شب على أن يكون متمرداً، وهو لن يرغب في التحول إلى نسخة وديعة من نفسه ليصبح مقبولاً لدى المؤسسة.

وقد جعله غضبه ضد الحرس السياسي القديم، الزعيم الأكثر شعبية في باكستان. فهو لن يرغب في التخلي عن ذلك من أجل إدارة بلد يبدو حتى خصومه الخاسرون مترددين في حكمه.

وهذه هي البيئة المثالية لعمران خان لمواصلة حملته، حتى من زنزانته باعتباره السجين رقم 804، الأكثر شهرة في البلاد .

محمد حنيف هو مؤلف وصحفي بريطاني من أصل باكستاني، وهو الرئيس السابق للخدمة الأردية في بي بي سي. كما أنه مؤلف وله العديد من المسرحيات والروايات، من بينهما راويتا "حالة انفجار المانجو" و"سيدة أليس بهاتي"، الحائزتان على جوائز.