في "وسط متربص" كما تصفه، تواجه السلطات الجزائرية انتقادات حادة حول "التضييق على حريات الرأي والتعبير" في البلاد، التي تصاعدت بعد توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال منتصف نوفمبر/تشرين الأول 2024 عند وصوله لمطار هواري بومدين في العاصمة الجزائر.

وتتهم الجزائر صنصال بـ"المساس بالأمن القومي" من خلال تصريحات تندرج تحت المادة 87 من قانون العقوبات الجزائري، التي تنص على أن "كل فعل يستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية واستقرار المؤسسات وسيرها العادي، هو فعل إرهابي أو تخريبي".

ويقول محامي صنصال الفرنسي، فرانسوا زيمراي – بحسب صحف فرنسية – إن اتهامات الجزائر "خطيرة جداً"، وقد تؤدي إلى عقوبات مشددة في حق موكله.

وأثار توقيف صنصال ردود فعل محلية ودولية واسعة، وانتقدت عدة منظمات حقوقية اعتقاله، مطالبة السلطات الجزائرية بالإفراج الفوري عنه.

من كاتب إلى منتقد

من أم جزائرية وأب مغربي، ولد الكاتب بوعلام صنصال في 15 أبريل/نيسان 1949، في قرية والدته النائية في منطقة القبائل، وتلقى تعليمه الأساسي في الجزائر، قبل أن يسافر إلى فرنسا لدراسة الفلسفة.

وبدأت رحلته المهنية مع بداية الحرب الأهلية في الجزائر في التسعينيات، حين أصدر عام 1993 أول رواية له بعنوان "الليل والخريف"، التي تحدث فيها عن الإحباط والتشتت الذين شعر بهما كمواطن جزائري في ظل الحرب التي شهدتها بلاده.

صنصال
Getty Images

لكن الرواية الأكثر شهرة والأهم لصنصال صدرت عام 1998 بعنوان "كتاب الأم"، وتحدّث فيها عن مرحلة النفي والاغتراب، وجسّد من خلالها تجربته في الهجرة والابتعاد عن بلده.

وعلى هذا النهج، ركز صنصال في جميع أعماله على مواضيع الاستبداد، والعنف، وانتهاك حقوق الإنسان، كما انتقد ما وصفه بالتطرف الديني والجمود الفكري والسياسي في الجزائر ما جعله في مواجهة مستمرة مع السلطات الجزائرية.

لكن انتقاداته للوضع في بلاده أخذت منحنى آخر، حين قال في تصريحات عبر وسائل إعلام فرنسية إن "مناطق غرب الجزائر كانت جزءاً من المغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، ما أثار غضب السلطات الجزائرية واعتبرتها "اعتداءً على أمن الدولة" وقامت باعتقاله على إثرها.

باريس وصنصال والجزائر وتصفية الحسابات

توقيف صنصال أدى إلى أزمة سياسية جديدة بين الجزائر وفرنسا التي تشهد علاقتهما توترات بالأساس، ففي حين صعّدت فرنسا من حدة انتقادها للسلطات الجزائرية على خلفية اعتقال صنصال، اتهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الكاتب الجزائري الفرنسي بـ"المحتال والمبعوث من فرنسا".

ويرى رئيس حزب جيل جديد في الجزائر سفيان جيلالاي، في مقابلة مع بي بي سي عربي، أن تدخل فرنسا في قضية "مواطن جزائري مع العدالة في بلاده ليس له مبرر وغير مقبول"، معتبراً أنه "اعتداء مباشر على الجزائر".

ويعتبر جيلالاي أن هناك تطاولاً الآن على الجزائر، خاصة من قبل بعض السياسيين في اليمين المتطرف، الذين "يكنّون حقداً على الجزائر منذ الثورة الجزائرية"، مشيراً إلى بعض تصريحاتهم حول أن "الجزائر ليس لها تاريخ أو أمة"، وهو ما اعتبره "محاولة لطمس تاريخ الجزائر".

ويقول جيلالاي أن صنصال "استُغلّ واستُعملّ من قبل فرنسا، وأصبح يقاتل وينقُد الجزائر بشراسة منذ أن تحصّل على الجنسية الفرنسية قبل أشهر".

صنصال
Getty Images

ويعتقد جيلالاي أن هناك حسابات أخرى، إذ أنّ "فرنسا تعيش حالة تراجع كبير في أفريقيا، وطُرد الجيش الفرنسي من كافة دول الساحل، والجزائر لديها موقف صارم من فكرة إعادة امبراطورية استعمارية سابقة للمنطقة".

لكنّ رئيس منظمة شعاع لحقوق الإنسان رشيد عوين، يقول إن هذه ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها فرنسا عن وضع الحريات والحقوق في الجزائر، ولطالما اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "السياسة التي يتبعها النظام الجزائري هي سياسة عسكرية".

ويرى عوين أنّ تفاعل الجانب الفرنسي مع قضية صنصال جاء باعتباره مواطناً يحمل الجنسية المزدوجة الجزائرية والفرنسية، ودفاعاً عن حقه في التعبير عن رأيه، منتقداً ملاحقته بمواد قانونية متعلقة بمكافحة الإرهاب.

ويوضح عوين أن قضية صنصال ليست هي من فاقمت توتر العلاقات بين باريس والجزائر، بل هي ملف من الملفات الأخرى والتراكمات بين البلدين، ومن بينها الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء الغربية وتبنيها لفكرة الحكم الذاتي، وهو ما أغضب السلطات الجزائرية بشدة.

الرئيس الجزائري
Getty Images

ويضيف عوين أن السلطات الجزائرية، تقوم باستخدام ملف الذاكرة مع فرنسا بين الحين والآخر، إذ تقول السلطات الجزائرية أنها تسعى لحل القضايا العالقة مع فرنسا، لكنها في الحقيقة تستخدم هذا الملف من أجل أجندة سياسية لمصالح خاصة بالسلطة على حد وصفه.

وفي ظل تلك العلاقات المعقدة بين الجزائر وفرنسا، يقول محامي صنصال، فرانسوا زيمراي إن "العلاقات السيئة بين الجزائر وفرنسا تزيد من تعقيد القضية، حيث أصبح صنصال كبش فداء لهذا النزاع الدبلوماسي" على حد تعبيره.

استفزاز أم تضييق؟

لكن الانتقادات للجزائر لم تنحصر في قضية صنصال فقط مؤخراً، ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أثار توقيف عدد من النشطاء في الجزائر من بينهم مانيش راضي وعبد الوكيل بلاّم بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ردود فعل واسعة، ويتفق جيلالاي وعوين على أن الجزائر تشهد تراجعاً كبيراً على مستوى حريات الرأي والتعبير في البلاد.

إذ يقول رئيس حزب جيل جديد إنه منذ حراك عام 2019 شهدت الجزائر تضييقاً كبيراً في حرية التعبير والصحافة ، بسبب "المناخ الذي ساد بعد ذلك الحراك الذي تخللته بعض المحاولات لزعزعة استقرار الدولة"، مؤكداً أن هذا "التضييق والتشديد على مراقبة عمل الصحف والإعلام والأحزاب مبالغ فيه".

ويوضح جيلالاي أنه يجب التفريق بين القضيتين، إذ أن "التضييق على حرية التعبير داخل البلاد، ذو بعد سياسي واضح وربما سيكون مؤقتاً"، بينما عندما يتعلق الأمر بقضية صنصال، فإن هناك "نفس الذهنيات في عدد كبير من الدول وليس الجزائر فقط، فعندما تتدخل دول غربية بحجج حتى وإن كانت تلامس الحقيقة، فإن ذلك لا يخدم الشعوب، بل يخدم مصالح الغرب، وهذا ما لن يقبله الجزائريون، ولن يقبلوا الاعتداء على بلدهم".

وأشار جيلالاي إلى الكاتب الجزائري كمال داود – الذي أثار جدلاً كبيراً بانتقاداته للنظام الجزائري أيضاً – إذ يقول رئيس حزب جيل جديد أن داود ليس له أي مشكلة مباشرة مع السلطات الجزائرية على "الرغم من نشره مجموعة من من المقالات المثيرة للاستفزاز".

صنصال
Getty Images

واعتبر جيلالاي أن تصريحات صنصال "تعدٍ مباشر على الجزائر وعلى الهوية الوطنية"، مؤكداً أنه "عندما يتم مقارنة ما يجري في الجزائر ودول أخرى، فإن ما يجري في الجزائر مازال مقبولاً جداً على مستوى ممارسة الحريات".

من جانب آخر، يرى رئيس منظمة شعاع أن التضييق الذي تعيشه الجزائر الآن "غير مسبوق"، إذ "لم يقتصر القمع على الداخل فقط بل أصبح عابراً للحدود، وشمل الصحفيين والمحامين والناشطين، وأصبحت السلطة لا تفرق بين أحد، وتمارس قمعها بعدل على كافة الأطياف".

ويرى عوين أن تصريحات صنصال تبقى تعبيراً عن رأيه الشخصي ولا يوجد فيها أي شي يعكس تحريضاً واضحاً حتى يُلاحق بمواد قانونية لها علاقة بالوحدة الوطنية، موضحاً أن ما طرحه صنصال "كان سرداً تاريخياً، سبقه إليه العديد من الكتاب والمفكرين من المنطقة المغاربية"، مؤكداً أنّه "عبر عن رأيه بطريقة سلمية".

ويشير عوين إلى أن السلطات الجزائرية قامت منذ 2021 بتغييرات على بعض المواد القانونية الخاصة بملاحقة الإرهاب، إذ أصبح تعريف الإرهاب "تعريفاً فضفاضاً جداً بحسب المادة 87 من قانون العقوبات"، متهماً السلطات الجزائرية باستخدامها لـ"تصفية حسابات سياسية مع كل من يخالفها الرأي، وأصبحت أداة لملاحقة النشطاء والصحفيين والقانونيين، وغيرهم".

ويضيف عوين أن "ردود السلطات الجزائرية تعكس ازدواجية في خطابها، إذ أن المحاكمات والأحكام التي يواجهها النشطاء تفتقر الإنصاف والشفافية"، ويوضح أن "القضاء أصبح أداء لتصفية الحسابات ضد النشطاء والحقوقيين والصحفيين، لا سيما مع اتهام الرئيس تبون لعدد من النشطاء بالتخابر، كما حدث مع صنصال".

ولا تعلّق الجزائر على الانتقادات التي تطالها فيما يخص التضييق على حريات الرأي والتعبير، وحاولنا التواصل مع الحكومة الجزائرية وقصر المرادية (رئاسة الجمهورية) للحصول على رد مستقل حول ما ورد في هذا المقال، لكننا لم نتحصل على رد حتى الآن.

وفيما يخص الانتقادات الفرنسية، أصدرت الحكومة الجزائرية عدة بيانات عبر وزاراتها المختلفة كالخارجية والداخلية، اعتبرت من خلالها الانتقادات الفرنسية، "تدخلاً سافراً" في شؤونها الداخلية.