بيروت: غابة كاملة من الأسئلة أثارها قرار الرئيس السوري قبل يومين بإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان: لماذا عجز هذان البلدان الشقيقان، اللـذان يعتبران quot; شعباً واحداً في دولتين quot;، عن حل مشاكلهما الحدودية والسيادية والدبلوماسية بنفسيهما وبمعزل عن التدخل الفرنسي، الذي كان له باع طويل (والبعض يقول وحيد) في مسألة تبادل السفراء هذه؟
ولماذا غابت جامعة الدول العربية، التي تعتبر لبنان وسوريا من الدول المؤسسة لها في أوائل الأربعينات عن هذا الحدث، لتَحلّ محلها جامعة الدول المتوسطية (الاتحاد الأوروبي)، هل لأن الانتماء إلى حوض البحر المتوسط بات أهم من الانتماء إلى بحر المنطقة العربية؟
ثم، كيف يُـمكن للسفراء أن يحّلوا مشاكل بين الحكومتين، عجَـز الرؤساء أو رؤساء الحكومات عن حلّـها؟ التبادل الدبلوماسي يكون عادة تتويجاً لإتفاقات شاملة بين بلدين لا مقدّمة لها، كما يحدث مثلاً حتى بين الدول الأعداء كمصر والأردن وبين إسرائيل، لكن الاتفاق اللبناني السوري الحالي، جاء في عكس التيار: أنه يبدأ من حيث ينتهي الآخرون.
ماذا سيحلّ بالمجلس الأعلى السوري اللّـبناني الذي عُـلِّـقت عليه كِـبار الآمال بأن يكون بطاقة دخول البلدين في شكلٍ مشترك إلى عالم العولمة والتكتلات الإقليمية الكبرى، التي أضحت سِـمة العصر؟
التاريخ والجغرافيا
هذه الأسئلة تبدو أيديولوجية، وهي كذلك إلى حدٍّ ما، لكن مبرّرها يكمُـن في الحتمِـيات الجغرافية والمعطيات التاريخية التي جعلت من تكامل البلدين هو القاعدة، وتنابذهما هو الاستثناء، وبالتالي، جاءت العلاقات الدبلوماسية (التي تعني في بعض أبعادها الانفصال الناعم بين الطرفين)، حصيلة تغلّـب المصالح على الأيديولوجيا والتاريخ الجديد على التاريخ القديم والضغوط الخارجية (الغربية) على التوازنات الإقليمية المحلية (السورية - اللبنانية).
بكلمات أوضح، قرار العلاقات الخارجية جاء نتيجة إدخال تعديلات نوعِـية على الدبلوماسية السورية، بعد أن تعرّضت دمشق، منذ غزو العراق عام 2003، إلى حِـصار شِـبه كامل عليها من جانب الغرب، وارتطمت جهود نظام بشار الأسد للحفاظ على السلطة، فيما هو يتأقلم مع العولمة، بوضع سوريا الجيو ndash; إستراتيجي، الذي ازداد سوءً آنذاك.
فبعد أن تعايشت سوريا لمدّة عقود مع احتلال إسرائيل لمُـرتفعات الجولان الإستراتيجية، واجهت أيضا عداءً أميركيا على الحدود الشرقية منذ اجتياح العراق، ثم جاء تخلّـي ليبيا عن برنامج التسلح النووي عام 2004 وما تلاه من توثيق علاقاتها مع الغرب، ليُـزيل عن الخريطة آخر شريك لسوريا في المُـجابهة.
ومع عدم وجود سوى حِـفنة أوراق في يدها عام 2004، باتت سوريا في حالة حِـصار حقيقية. أهم رصيد لديها كان في لبنان، وهو محمية الأمر الواقع بالنسبة لها، لكن تصميم دمشق على الاحتفاظ بهذا الرّصيد، سار تماماً في عكس مخطّـطات واشنطن في الشرق الأوسط.
فقد وضعت إدارة بوش نصب عينَـيها هدَف تغيير سلوك نظام بشار، لأنه لم يطبِّـق معايير والده حافظ الأسد، المتعلقة بالتنسيق البراغماتي المتواصِـل مع واشنطن، وأصرّت على أن يقوم الرئيس بشار بحِـراسة الحُـدود مع العراق ووقف دعم الجماعات المعادية لإسرائيل وسحب قواته من لبنان والسّـماح له بإجراء انتخابات حرة، والتخلي عن برامج أسلحة الدمار الشامل.
وقد استفادت واشنطن من ضعف سوريا وبدأت منذ سبتمبر 2004 سِـلسلة متّـصلة من الإجراءات، لإجبارها على قبول شروطها، توّجت بقرار مجلس الأمن رقم 1559، القاضي بانسحابها من لبنان، لكن، وبغضّ النظر عن هذه الضغوط، جاءت خطوة تمديد سوريا لولاية الرئيس اللبناني إميل لحود لتخلق حالاً من اللاإستقرار في نظام سياسي لبناني معقّـد وغير مستقر أصلاً.
ويتّـفق المحللون على أن هذه الخطوة سببها سياسة الخندقة التي دفعت دمشق إلى تعزيز نفوذها في لبنان وتشكيل حكومة من الموالين تماماً لها، برئاسة عمر كرامي.
وخلال هذه العملية، كانت واشنطن وباريس تطلِـقان سلسلة متّـصلة من التحذيرات لسوريا من مغبّـة التدخل في الشؤون اللبنانية. وهكذا وصف كولن باول تعيين كرامي بأنه quot;نموذج آخر عن الدّور السوري غير المناسبquot;.
بقية القصة معروفة: وصول أزمة quot;سوء التفاهمquot; الأميركية - السورية في 2004 إلى ذِروتها في 2005 مع اغتيال رفيق الحريري، وصدور القرار الأميركي النهائي بسحب القوات السورية فوراً من لبنان.
الدبلوماسية الجديدة لدمشق
منذ أواسط عام 2007، انتهجت دمشق خَـطاً دبلوماسياً جديداً، استند إلى ركيزتين إثنتين: الأولى، العمل بكل الوسائل على عدم استفزاز إدارة بوش (التي يصِـفها السوريون بأنها مجنونة ومتهوِّرة) وكسب الوقت في العلاقة معها، إلى حين رحيلها في أواخر عام 2008. الرهان هنا، كان واضحاً: مجيء إدارة أميركية جديدة تقوم إما بتطبيق مبادرة بيكر ndash; هاميلتون، القاضية بالاعتراف بدور سوريا (وإيران) في العراق ولبنان وبقية أنحاء الشرق الأوسط، وبالتالي، الانخراط معهما في مفاوضات بإبرام صفقات جديدة أو على الأقل، إدارة لا تضع نصب عينيها تغيير النظام السوري كهدف مباشر.
والثانية، الانفتاح المُـزدوج والمُـتزامن على المُـعسكريْـن المتصارعيْـن في الشرق الأوسط: الغرب وإيران، مضافاً إليهما الآن روسيا.
تتويج هذه الدبلوماسية تمّ خلال القمّـة الرباعية في دمشق في أواخر أغسطس الماضي، والتي ضمّـت إلى رئيس سوريا، قادة فرنسا وتركيا وقطر، أي عملياً، كل ألوان الطَّـيف السياسي الحليف للغرب الأميركي (الإسلامي التركي والقطري الخليجي والأطلسي الجديد الفرنسي)، لكن قبل هذه القمّـة بأيام، كان الرئيس الأسد يطلِـق دعوة مُـجلجلة إلى الانقلاب على هذا الغرب بالذات، فقد دعا روسيا خلال زيارته لها، إلى نشر صواريخها المضادّة للصواريخ على الأرض السورية، لتطويق الشبكة الصاروخية التي ينوي حِـلف الأطلسي خنق موسكو بها في أوروبا الشرقية، وأعلن انحيازه التّـام إلى جانب روسيا في مواجهتها الرّاهنة والساخنة مع الغرب في قلب قارة أوراسيا، كما أنه دقّ أجراس الإنذار بقوّة في واشنطن وبروكسل وتل أبيب، حين سرّب أنباء عن احتمال تحويل اللاذقية إلى قاعدة بحرية تُـشرف منها روسيا على كل إمدادات النّـفط المتدفِّـقة من القوقاز - آسيا الوسطى على البحر المتوسط التركي.
لكن هذا كان قبل أيام من القمّـة الرباعية، أما بعدها، فعقد الأسد قمّـة مع ثلاث دول تعمل عكس ذلك كله. ففرنسا ndash; ساركوزي، تتزعّـم في أوروبا الحملة لمعاقبة روسيا. وتركيا ndash; أردوغان، تنشط لإبرام السلام بين سوريا وبين إسرائيل، التي قاتلت روسيا في القوقاز. وقطر لا تستطيع، حتى لو أرادت، الابتعاد كثيراً عن واشنطن، بحُـكم تحالفها العسكري المَـكين معها. وفوق ذلك كلّـه، لا تخفي الأطراف الثلاثة هدفها الحقيقي من وراء التقارب مع دمشق: إبعادها عن طهران والآن (بعد موقعة جورجيا) عن موسكو.
الحذاقة الدبلوماسية الدمشقية كانت حاضرة بالطبع، لكنها ليست كافية لتفسير ما جرى، إذ ليس ثمة دولة في الغابة المتوحِّـشة التي يُـطلق عليها إسم الأسرة الدولية، ساذجة إلى درجة ابتلاع هذه التوجّـهات على أنها بديهية أو جُـزء طبيعي من طبيعة السياسة.
لا باريس ولا أنقرة في وارِد قبولها والقفز فوق مضامينها وأبعادها، ولا حتى موسكو وطهران تستطيعان التعايش معها طويلاً، وبالطبع واشنطن الجديدة في عام 2009، لن تتبلع كل طعومها، حتى ولو أصبح باراك أوباما الأسمر هو سيد البيت الأبيض.
بيد أن دمشق ستُـواصل، على أي حال، انتهاج هذا الدّرب، خاصة بعد أن حقّـقت عبر فرنسا - ساركوزي وعبر مفاوضاتها المباشرة مع إسرائيل، اختراقاً مهمّـاً للحصار الغربي الذي فُرض عليها منذ عام 2005، من دون إلحاق جروح جسيمة في جسد روابطها الإستراتيجية مع طهران، وهي (دمشق) تشجّـعت للغاية في الأسبوع الماضي، حين سمعت أصواتاً في واشنطن (على الأقل في وزارة الخارجية) تُـوحي بأن هذه الأخيرة، ربما تكون مستعدّة لفتح صفحة جديدة معها.
النفوذ في لبنان
باختصار، الصورة الآن تبدو كالآتي: سوريا تُـراكم (وستواصل مراكمة) أكثر ما يمكنها من الأوراق الدبلوماسية والأمنية، بانتظار مجيء الإدارة الأميركية الجديدة. وإذا ما سار كل شيء على ما يُـرام في واشنطن بالنسبة إليها خلال العام الجديد، فستكون في موقِـع استعادة شيء أو حتى جزء كبير من دورها الإقليمي. وبالطبع، لبنان يقِـف في أولوية أولويات هذا الدّور.
هنا، لا أحد يشكّ بأن دمشق تريد استعادة نفوذها في لبنان، لكنها تنوي الآن أن تفعل ذلك في إطار إستراتجيتها الدبلوماسية الجديدة لا خارجها، القائمة على مُـمارسة quot;القوة الناعمةquot;، بدل quot;القوة الخشنةquot;، وهذا يعني أمرين: التنسيق بشكل وثيق مع فرنسا (وأميركا بالطبع) حيال لبنان، والعمل في الوقت ذاته على تغيير موازين القوى السياسية اللبنانية بالتدريج لصالحها، وفي كلا الحالين، الشعار المرفوع حالياً لدخول لبنان، يختلِـف عن ذلك الذي رُفِـع عام 1975.
ففي تلك الفترة، كان الشِّـعار وقْـف الحرب الأهلية ومنع تحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من السيطرة على السلطة، لكن الشعار الآن سيكون مُـحاربة الإرهاب.
آخر تداعيات هذه القوة النّـاعمة برزت يوم الثلاثاء 14 أكتوبر، حين أعلنت دمشق رسمياً عن قرار إقامة العلاقات الدبلوماسية مع لبنان.
بالطبع، هذه كانت خُـطوة بالِـغة الرمزية. فهي لم تأت (كما أوضحنا) حصيلة اتفاقات داخلية لتأسيس علاقات جديدة بين البلدين، بل نتيجة شروط خارجية اشترطت تطبيع العلاقات رسمياً بين لبنان وسوريا، قبل تطبيع العلاقات بين سوريا والغرب.
ومع ذلك، فهي رمزية مُـثقلة بالأبعاد الأيديولوجية ndash; السياسية، إذ أن النظام السوري أخضع أيديولوجيته القومية العربية (وأيضاً الهوية الوطنية السورية، التي لطالما اعتبرت لبنان أو مُـعظمه جزءً منه) إلى مصالحه الإقليمية والدولية، وهذه خُـطوة ستثير، بِـلا رَيْـب، امتعاض الكثيرين في الداخل السوري، خاصة وأنها تأتي في أعقاب ما بدا أنه تنازلات سورية إلى تركيا في مسألة لواء الإسكندرون.
والسؤال الآن هو: هل ستكون هذه الخطوة الرمزية مدخلاً إلى خُـطوات عملية باتِّـجاه إقامة علاقات مُـتوازنة في إطار الاتحاد المتوسطي الذي يريده الرئيس الفرنسي، بعد أن تعذرت إقامة مثل هذه العلاقات في إطار الإتحاد العربي (الجامعة العربية)؟ أم أن هذه الرمزية الإيجابية ستنقلِـب إلى سلبية، إذا ما تبدّلت الموازين الإقليمية - الدولية الراهنة؟
كلا الاحتمالين واردين، ليس فقط موضوعياً، بل أيضاً ذاتياً في ذِهن القيادات السورية. ففي النهاية، مصير العلاقات السورية - اللبنانية مُـرتبط ارتباطاً وثيقاً بمُـستقبل العلاقات السورية - الغربية عموماً، والسورية - الأميركية على وجه الخصوص.
سعد محيو - بيروت
التعليقات