انتفاضة ثالثة تلوح في أفق الأرض المقدسة
إسرائيل تستعد والسلطة تعد بمنع انتفاضة جديدة

أسامة العيسة من القدس: يوم الأربعاء الماضي، عقد ضباط إسرائيليون وفلسطينيون، اجتماعا مشتركا، في مستوطنة بيت ايل، قرب رام الله، التي يقع فيها مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية، بأذرعها الكثيرة والمختلفة، التي تدير احتلال الضفة الغربية، بما فيها تلك التي للسلطة الفلسطينية سيطرة اسمية عليها. ولم يكن هذا الاجتماع هو الأول بين الجانبين، فبعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، وجدت ما عرف بمكاتب الارتباط للتنسيق بين السلطة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي كان يتولاها ضباط من الجانبين، ولم تنقطع هذه الاتصالات بشكل كامل رغم ما شابها من توترات، وصلت ذروته، في انتفاضة الأقصى، بطرد مستخدمي مكاتب الارتباط الفلسطينيين، من المكاتب المشتركة التي جمعتهم مع الإسرائيليين، الذين بقوا لوحدهم في هذه المكاتب يديرونها بالشكل الذي يناسب سياسة الاحتلال.

وما يدور في مثل هذا الاجتماع الأخير، عادة لا تتحدث عنه السلطة الفلسطينية، وأجهزة إعلامها، التي يبدو أنها لا تؤمن بحق جمهورها بالحصول على المعلومات، خصوصا إذا كان هذا النوع من المعلومات، تشعر السلطة بأنه محرجا، ولكن ما جرى في الاجتماع الأخير يوم الأربعاء، كان مهما، في تاريخ السلطة الفلسطينية، وفي ظل حكومة فلسطينية، لم يعد دور جاك ولس، القنصل الأميركي في القدس، المؤثر في تشكيلها، والاطلاع على عملها التفصيلي، من الأسرار، التي يحرص، على الأقل الجانب الأميركي، على إخفائها، ولا يشكل هذا الدور بالنسبة للحكومة نفسها، شانا معيبا، وهي التي تضم وزراء يدينون بوجودهم فيها، لولس نفسه، وليس لاحد أخر.

في هذا الاجتماع، أبدى الضباط الإسرائيليون غضبا، مما اعتبروه بوادر انتفاضة ثالثة، تلوح في أفق الضفة الغربية، بعد الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها مدن وبلدات الضفة الرئيسية والنائية، ومنها رام الله عاصمة السلطة الفلسطينية، التي تخضع للاحتلال الإسرائيلي الكامل، بعد عملية الشتاء الساخن الإسرائيلية في قطاع غزة.

ووفقا لمصادر موثوقة تحدثت لايلاف، فان الجانب الإسرائيلي كان غاضبا وحازما، وطلب من الجانب الفلسطيني ما اسماه الإيفاء بالتزاماته الأمنية، وأبدى ما وصفه استيائه، من موقف أجهزة السلطة quot;المتفرجquot; حيال التظاهرات التي اندلعت غضبا على ما يجري في غزة. وكان لدى الجانب الفلسطيني الكثير مما يقوله، مثل أن السيطرة الحقيقية على الأرض هي للجانب الإسرائيلي، الذي قتلت رصاصات جنوده الضحايا الفلسطينيين خلال الأحداث التي وقعت، وان كثيرا من المناطق التي شهدت الأحداث هي أصلا بعيدة كل البعد عن المناطق المسموح للسلطة بالتواجد فيها، وحتى المدن التي للسلطة وجود أمني فيها هي تخضع للاحتلال المباشر، مثل رام الله، مقر قيادة السلطة، وأمور أخرى من هذا القبيل، إلا أن هذا كله لم يحدث، واكتفى الفلسطينيون بالالتزام أمام نظرائهم من الجانب الإسرائيلي بعدم تكرار ما حدث، وعدم السماح باندلاع انتفاضة ثالثة.

وفي الواقع، فان هذا الالتزام الأمني الفلسطيني بدون أي مقابل سياسي، الذي قدم في الاجتماع، الذي عقد بعلم الجنرال كيث دايتون، المنسق الأمني الأميركي، سبقه ورافقه، تحرك لقوات الأمن الفلسطينية، بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، الذي طلب منها العودة إلى أماكنها في ما يسمى مناطق التماس التي شهدت التظاهرات.

ودفعت قوات الأمن الفلسطينية، التي تبذل جهودا لتأهيلها، بقوات منها مسلحة بهراوات وبنادق إلى مناطق التماس، ونجحت في إبعاد المتظاهرين، ومنعهم من الوصول إلى الحواجز والأبراج العسكرية الإسرائيلية، لقذفها بالحجارة، وتم ذلك في كثير من الأحيان بالقوة، التي شابها الكثير من السخرية، لان رجال الأمن الفلسطينيون اضطروا لملاحقة الأطفال الذين عادة ما يتولون هم رشق الحجارة، مما عاد للأذهان تلك الصور المزعجة للإسرائيليين، خلال الانتفاضة الأولى وما قبلها، عندما ظهر الجيش الإسرائيلي، الذي يفترض أن يخوض معاركا، وهو يلاحق أطفالا يحملون الحجارة، وهو أمر من الناحية العسكرية على الأقل، شكل قلقا للإسرائيليين، وجعلهم مع عوامل وأهداف أخرى، يخططون لتتولى قوات محلية فلسطينية، مهام التعامل المباشر مع الجمهور الفلسطيني.

ولكن هذا الموقف الفلسطيني الرسمي الحاسم، لم يحل دون أن يتمكن علاء أبو دهيم، من تنفيذ عملية، وصفت بالنوعية في المعهد الديني التلمودي، مساء الخميس، بعد يوم واحد من اجتماع بيت ايل، وهي مستوطنة بالإضافة إلى أهميتها العسكرية والإدارية للاحتلال الإسرائيلي، فإنها استخدمت لإرسال رسائل رمزية، كما حدث عندما عقد ارئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي ابان انتفاضة الأقصى، اجتماعا لحكومته فيها، ليقول لياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية المغضوب عليه آنذاك، ومحاصر في مقره، بان رام الله ليست بعيدة عن قبضة إسرائيل، وان شارون يمكنه من عقد اجتماعات حكومته في رام الله نفسها.

ويبدو أن التطور الأخير، الذي حدث في غزة وما تلاه من تحرك شعبي فلسطيني في الضفة، وهو غير منظم وغير مخطط له من قبل الفصائل الفلسطينية الضعيفة، نبه جهة أخرى تلعب دورا مهما في الساحة الفلسطينية، وهي الولايات المتحدة الأميركية، إلى أهمية الإسراع فيما تسميه إعادة تأهيل وتجهيز أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعمل من مقار مؤقتة، بعد أن دمرت القوات الإسرائيلية مقارها خلال انتفاضة الأقصى.

ومنذ شهور، تجري عمليات لإعادة بناء لهذه المقار، بدعم غربي، وبإشراف أميركي، وتحرك الأميركيون الان، كما تؤكد المعلومات التي حصلت عليها إيلاف، من جهات محلية تشارك في عملية إعادة البناء، من اجل إنهاء بناء المقار، بأسرع وقت ممكن، ولذا فان وجود الممثليين الأميركيين في مواقع البناء، اصبح أمرا روتينيا.

ولكن هل هناك ما يؤشر في الأراضي الفلسطينية، إلى قرب اندلاع انتفاضة ثالثة؟

هذا سؤال يتجنب الكثيرون الإجابة عليه، لان الوضع في فلسطين، يشكل دائما أرضية لاندلاع انتفاضات دائمة، ولكن متى وكيف؟ هي أسئلة دائما ما عجز المتابعون عن الإجابة عليها، فالانتفاضات تندلع عشوائيا، وبدون تخطيط، حتى تتنبه الفصائل الفلسطينية، فتحاول احتوائها وقيادتها، كما حدث في هبة البراق في عشرينات القرن الماضي، وما تلاها من هبات وثورات، وكذلك في انتفاضة الحجارة الأولى، وانتفاضة الأقصى الثانية، حيث تحركت الفصائل متأخرة، وأحيانا تنجح قوى محلية وإقليمية في وقفها كما حدث في ثورة (1936-1939) من قبل قيادة المفتي أمين الحسيني التقليدية والمهادنة، بضغط من دول عربية تعهدت آنذاك quot;للصديقة بريطانياquot;، عبر نداء وجهه ملوك ورؤساء هذه الدول، وأيضا مثل السلطة الفلسطينية، كما حدث في انتفاضة النفق عام 1996، وانتفاضة الأسرى بعد ذلك بفترة، وقصة وقف السلطة بقيادة ياسر عرفات وتوجيهاته لهذه الانتفاضات الصغيرة الحديثة، لم ترو حتى الان فلسطينيا، وان كانت كثيرة الآلام، وتتضمن قرارات وأسرارا، ستكون صادمة للرأي العام الفلسطيني.

وأدى نجاح السلطة في احتواء الانتفاضات الصغرى، إلى تنفيس الغضب الفلسطيني، الذي اخذ يتراكم بفعل ممارسات الاحتلال، ليعبر عن نفسه بانتفاضة الأقصى، التي لم تأخذها الفصائل الفلسطينية، ومنها حركة حماس، على محمل الجد في البداية، فتحركت متأخرة كثيرا، ولم يتمكن عرفات من تقدير ما يحدث، فلم ينجح باحتواء الانتفاضة أو وقفها، فحاول قيادتها، ولكنه لم يكن أبدا الشخص المناسب، فانتهى سياسيا وحياتيا، بشكل شديد الدرامية، رغم أن محاولاته لكبحها ووقفها، لم تتوقف أبدا حتى قبيل وفاته.

وبالنسبة للجانب الإسرائيلي الذي حصل على تعهدا فلسطينيا، بالتصدي لأي مظاهر انتفاضية، فان ما يقلقه، ليس فقط ما يمكن أن يجري في الضفة الغربية، ولكن أيضا في داخل إسرائيل نفسها، التي تشهد quot;أشكالا انتفاضيةquot;، تتمثل برشق السيارات الإسرائيلية التي تمر في الشوارع القريبة من المدن والتجمعات العربية. وبالإضافة إلى ذلك، فان حمل أبو دهيم، منفذ عملية القدس الأخيرة، لبطاقة هوية تمكنه من التنقل في إسرائيل، وتبني تنظيم يعمل بين العرب في إسرائيل هو كتائب أحرار الجليل، للعملية، أشعل اكثر من ضوء احمر في مكاتب الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

وتحدثت مصادر إسرائيلية عن توفر 47 إنذارا لدى الشرطة الإسرائيلية، بتنفيذ عمليات داخل إسرائيل، مما حدا بالجنرال الجنرال دودي كوهين، مفتش عام الشرطة، لرفع حالة التأهب الشرطية درجة واحدة اقل من الدرجة القصوى، ومن بين المدن التي رفعت فيها حالة التأهب القدس، وبئر السبع، وايلات، والإنذارات تتحدث عن إمكانية تفجير سيارات مفخخة، أو اختطاف شخصيات جماهيرية.

وكل ذلك مؤشرات، لا يمكن إغفالها، وإذا لم تندلع انتفاضة ثالثة، فهذا لا يعني أنها لن تحدث، وان اندلعت، فإنها لن تكون المرة الأولى، التي ستشهد فيها الأرض المقدسة دوامة دماء جديدة، ولكنها قد تكون الأكثر دموية.