اعتدال سلامه من برلين: مطالبة ألمانيا بنيل مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي ليست جديدة وكانت تسمع في عهد المستشار السابق هلموت كول اي في مطلع الثمانينات، وحاول يومها وزير الخارجية السابق كلاوس كنيكل عدة مرات دس نبض الدول الاعضاء الصديقة في الامم المتحدة لمعرفة مدى تجاوبها عندما تبدي بلاده رغبة في اخذ مكان دولي، خاصة بعد ان توحدت واصبحت توازي بكبرها، ان من حيث عدد السكان او القوة الاقتصادية فرنسا وبريطانيا ،عدا عن فهي تسدد من دون تأخير وبعكس الولايات المتحدة اشتراكاتها للامم المتحدة، فهي ثالث اكبر بلد مسدد للاشتراكات.

لكن القيود التي واجهتها في الفترة الاولى بعد اتمام الوحدة،منها عدم سماح دستورها بارسال قوات في مهمات دولية خارج حدود حلف شمال الاطلسي او اوروبا ومواصلة تواجد قوات من الحلفاء فوق اراضيها، منعتها من رفع الصوت ولو همسا. لكن هذا الحال لم يبق طويلا، فما أن خرج اخر جندي روسي من الجزء الشرقي من اراضيها واخر بريطاني وكندي من القسم الغربي مع ابقاء تواجد عسكري اميركي،عادت المانيا لتلمح برغبتها. ومع حدوث تغيير حكومي عام 1998 اراد الاشتراكيون اللذين تسلموا زمام الحكم متابعة خطى الحكم السابق فاعترضهم الشريك الصغير في الحكم حزب الخضر. ولان الاخضر يوشكا فشر تسلم منصب وزير الخارجية بردت القضية وعاد الملف لينتقل الى الدرج رغم احتواء اتفاق التآلف الحكومي على بنود لا تختلف من حيث مضمونها عن بنود اتفاقيات الحكومات السابقة ايضا ما يتعلق بالمقعد الدائم.

وظل الوضع على حاله إلى ان اندلعت حرب البلقان، عندها وافق حزب الخضر مضطرا وبضغط من واشنطن على ارسال قوات المانية الى المنطقة قيل انها لن تشارك فعليا في المعارك ضد الصرب بل سيقتصر دورها على قيادة طائرات اواكس للاستكشاف، ومازالت حتى الان هناك. وبهذا قام حزب الخضر باول خطوة غير متوقعة في تاريخه،وهو الذي يؤمن بالحلول السلمية عبر الحوار، وتظاهر افراده ومناصروه حتى فيشر في السابق ضد حلف شمال الاطلسي واعتبر حلفا استعماريا، فاخرج ملف المقعد الدائم مرة اخرى من الدرج دون ان يتحول الى قضية ملحة.

وحاول المستشار الاشتراكي غرهارد شرودر يومها سرا دفع الملف للتحدث به، لكن اول المتصدين لرغبته الخفية كانت الولايات المتحدة، ولمح الرئيس السابق بيل كلنتن بذلك عدة مرات فاقلق هذا النهج شرودر لانه يريد مقعدا دائما لبلاده اسوة بفرنسا وبريطانيا.

من جانب اخر عرف شرودر كيف يداوي حزب الخضر عندما يظهر تحفظا حيال ملف العضوية الدائمة فتمكن من الضغط عليه عدة مرات للموافقة على مهمات خارج حدود اوروبا وضعها كلها تحت خانة الاهتمامات الالمانية بالشوؤن الدولية. بينما لم يعد الوزير فيشر الذي تذوق طعم اهتمام العالم بحضوره ، خاصة رحلاته شبه المكوكية في وقت من الاوقات بين اسرائيل والاراضي الفلسطينية لتهدأة الاوضاع وكان اول وزير بعد الوحدة الالمانية يلقي كلمة امام الجمعية العمومية في الامم المتحدة فنال تقدير سياسيين دوليين وعرب.

كما يمكن القول انه وحتى نهاية التسعينات مارست المانيا عبر سفيرها المحنك في الامم المتحدة غونتر بلوغر سياسة دولية معتدلة وذكية كلها صبت في هدفها المنشود، مما افسح لها المجال

لكسب ثقة الصين عند سعيها لنيل مقعد دائم في مجلس الامن وتحييد روسيا نوعا ما لو ارادت اتخاذ أي مواقف معارض.

وعندما اعلنت واشنطن عن نفسها بانها القطب الاوحد في العالم ساعدت سياسة المانيا المتوازنة تحديد الحجارة التي يجب ان تنقلها في لعبة الدومينو مع بريطانيا فرنسا وواشنطن بهدف منع سيطرة ما يسمى بالهيمنة الانجلو ساكسونية من جانب والحد من طموح النيو ديغولية من جانب اخر، فهي كانت مدركة تماما ان الشركاء الاطلسيين لن يرق لهم تبوأها مقعدا دائما في اعلى منبر دولي، فاذا ما حصلت عليه سيصبح بمقدورها ان تلعب دورا اقليميا ودوليا فيما يتعلق ببناء سياسية دولية يوفر لها كل التقدير من دول العالم.

لكن المشكلة التي ظلت تعيق طموح المانيا ان دستورها لا يسمح لها بالمساهمة عسكريا كما تتطلب العضوية الدائمة في مجلس الامن لاحلال السلام او حل النزاعات، وجهد المستشار شرودر في البحث حتى عثر على مخرج سمح له سابقا بالمشاركة في مهمات خلال حرب البلقان، وهو استباب الامن الدولي والمساندة في اعادة الاعمار.

وعلى هذا الاساس ارسلت برلين بعد الحرب الاميركية ضد قوات طالبان جنودا الى افغانستان للقيام بمهمات لها طابع العون الانساني والمدني ، تبع ذلك تمركز قطع بحرية عسكرية المانية في القرن الافريقي ومناطق في افريقيا والخليج العربي لمنع تسلل الارهابيين، ولها حاليا عشرات الالاف من الجنود من مناطق يسودها التوتر. لكن تحول امتناعها عن المشاركة في الحرب في العراق الى ورقة في يد من لا يرغب في رؤيتها في مجلس الامن الدولي وفسر احجامها انه عدم مقدرة على المساهمة في احلال السلام في أي مكان كان.

لكن اذا ما تم تقييم ما قامت به برلين خلال الحرب يتضح انه لا يختلف كثيرا عن المشاركة الفعلية، حيث حرست بطائراتها اواكس الاجواء الاميركية في وقت كانت واشنطن بحاجة لطائراتها لتحلق فوق العراق وأفرزت المئات من الجنود لحراسة المنشآت الاميركية وثكناتها فوق الاراضي الالمانية وبنت جسرا جوا بين اوروبا والعراق لتوفير كل ما يحتاجه الجيش الاميركي هناك. عدا عن ذلك زاد شرودر عدد جنوده في افغانستان ليصل الى 1700 جندي ويحل في مناطق بدلا من الجيش الاميركي.

ومن خلال هذه التواجد جمعت برلين الكثير من النقاط الحقتها بملف طلب مقعد دائم اضافة الى ما كسبه وزير الخارجية فيشر في دورة الهيئة العامة للامم المتحدة عام 2003 من تأييد مبدئي من عدة بلدان ، وتزامن ذلك مع ترأس بلاده دورة مجلس الأمن الدولي، حيث لعب سفيرها بلوجر مدير الجلسات دورا ذكيا في اظهار مدى حاجة هذه المنبر الدولي للمزيد من الاصوات ليواجه انفراد الولايات المتحدة بقرارتها الدولية واهمية التوسيع كي تكون قرارات المجلس اكثر عقلانية وبعيدة عن الانفرادية.

وفي كل مرة كان يحضر الوزير فيشر اجتماعات الهيئة العامة للامم المتحدة كان يعرف ماذا يريد. فهو راهن على الوضع المتأزم في العراق وحالة الفوضى التي سببتها الحلول العسكرية الانفرادية ان في العراق او افغانستان، فرفع صوته للمرة الثانية وبقوة مطالبا بمقعد دائم لبلاده وتوسيع مجلس الامن الدولي، وبنى تحالفا شكليا مع الهند واليابان والبرازيل لتحصل كل واحدة على مقعد دائما كما طالب بمقاعد دائمة لافريقيا والعالم العربي، وادخال اصلاحات على المؤسسات التابعة للامم المتحدة.

وحسب قوله يومها يرتفع عدد الصراعات وتزداد تعقيدا وتمتد لتشمل سائر القارات، وعليه فان مسؤولية المجلس وصلاحياته قد ازدادت بشكل مطرد، وسوف ترتفع اهمية الوقاية من الازمات باستمرار، لذا يتطلب حماية السلام استراتيجيات اكثر شمولية وتعاونا اوثق وموارد اكبر، وسيؤدي هذا حتما الى اتخاذ قرارات تنتج عنها التزامات طويلة المدى، فلو اردنا حقا ان يتم الاعتراف بشرعية قرارات مجلس الامن الدولي وان تنفذ فعليا علينا ان نصلحه، ويجب ان يكون منظمة تشمل فعليا مصالح 191 دولة. وليس في الامكان تصور ذلك من دون رفع عدد المقاعد فيه سواء للاعضاء الدائمين او غير الدائمين. إن مجلسا فيه اعضاء اكثر سوف يتمتع دوليا بمصداقية اكثر.

ولاقى يومها مطلب فيشر انعكاسات مختلفة منها تأييد الكثير من دول الاتحاد الاوروبي، وفي الوقت الذي غيرت فيه فرنسا وبريطانيا من موقفهما السابق الرافض لنيل المانيا مقعدا دائما اصطدمت رغبة المانيا باعتراضات او انصاف قبول من دول اخرى. اذ اعرب يومها وزير الخارجية الاميركي الاسبق كولن باول عن مساندة بلاده لليابان دون ذكر أي شيء عن المطلب الالماني والبرازيلي والهندي.

لكن يمكن القول اليوم ان تسلم الحزب المسيحي الديمقراطي وزعيمته المستشارة انجيلا ماركل وتعتبر من اقرب السياسيين الاوروبيين للرئيس الاميركي جورج بوش خفف من رغبة المانيا في نيل مقعد دائم في مجلس الامن الدولي، على الرغم من ان شريكها في الحكم هو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهذا اعطى دعما للاصوات المعارضة لذلك.

والملفت للنظر ان يعلو صوت من الحزب الاشتراكي نفسه يرفض العضوية وهو المستشار الاسبق والسياسي المخضرم هلموت شميدت. ففي محاضرة له في برلين الاسبوع الماضي وصف سعيها هذا بالخاطئ، وبدلا من ذلك عليها المساهمة في تحسين مؤسسات الامم المتحدة والقانون الدولي وتقويتها، فهذا لا يتطلب بالضرورة مقعد دائما. وبرأيه أيضا ان تلعب المانيا دورا في السياسة الدولية تصور غير معقول، بالطبع هناك من يرغب في لعب دور لكن على المانيا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ان تكرس اهتمامها لجعل الاتحاد الاوروبي جهازا يعمل بشكل جيد وبقوة، لكن منذ توسع الاتحاد الاوروبي باتجاه الشرق لم يعد الامر كذلك. وطالما أن دستور الاتحاد الأوروبي لم يُعتمد بعد لا يمكن الحديث عن اتحاد اوروبي فعال.

وقال ايضا ليس من مصلحة المانيا أن تشارك في كل قرار سياسي في العالم يتعلق بشن حرب او تحمل مسوؤليات ما تترتب عن ذلك. واذا سبق وطالبت حكومتان المانيتان سابقتان بمقعد دائم فكان السبب في ذلك البروز والظهور فقط، بينما لا يتماشى هذا الطلب الان مع السياسة المشتركة المطلوبة للاتحاد الاوروبي. واعتقاد سياسيين ودبلوماسيين وموظفي الحكومة وجوب لعب المانيا دور في السياسية العالمية غير منطقي وغير مقبول.