في معرض رد قراء إيلاف على سؤال عما إذا كان انتخاب جمال مبارك رئيسًا لمصر إيجابيًا أو سلبيًا، وقد ذهبت نسبة الغالبية إلى خيار اعتباره أمرًا سلبيًّا قد ينذر باضطرابات إذ صوتت لصالح هذا الرأي نسبة بلغت 61.66%، من مجمل المشاركين، لكن في المقابل رأت نسبة لا يستهان بها، وإن كانت تشكل أقلية وقدرها 25.08%، أنه أمر إيجابيّ باعتباره أفضل البدائل الأخرى. لكن اللافت هنا هو ارتفاع نسبة الذين أعربوا عن عدم اهتمامهم بالأمر، إذ بلغت نسبة هؤلاء الذين اختاروا الإجابة بـquot;لا أهتمquot; إلى 13.26% وهي نسبة تشي بدلالات مهمة، فهؤلاء على نحو أو آخر لا يرون في الأمر ثمة تغييرات حقيقية، ولا يعولون كثيرًا على فكرة التغيير، ويقفون على تخوم quot;العدميةquot;.
بعيدًا من ارتباط هذا quot;اللغزquot; بمؤتمر الحزب الوطني الحاكم في مصر، الذي عقد مؤخرًا في القاهرة، وما أصدره من تلال الأوراق والوعود، يمكن للمراقب الآن أن يرصد ببساطة الخطوات التي يقطعها جمال مبارك نجل الرئيس المصري، وفق خطى محسوبة بدقة، نحو دعم دوره السياسي على نار هادئة، ولعل أهم ما يؤيد هذا الزعم هو تنامي دوره داخل الهيكل التنظيمي للحزب الحاكم وتنفذ مجموعته quot;الإصلاحيةquot; في آلية صنع خطاب الحزب وقراره، هذا فضلاً عن الإشارات المتواترة عن الإصلاح والتغيير، حتى ذهب بعض المراقبين إلى استنتاج أنه صار يلعب دور quot;حكومة الظلquot;، أو quot;الحكومة الخفيةquot;، وذلك كمقدمة لتصعيده كخليفة لوالده رغم نفيهما المتكرر السعي للأمر أو إمكانية استنساخ التجربة السورية مصريًا .
ومن هنا فلم يعد ما يدور في الشارع المصري حول مسألة quot;الخلافةquot; مجرد تكهنات، بل صار مادة يومية لمناقشات علنية.. تخفت حينًا وتعلو أحيانًا، ورغم اعتبار هذا الملف في قلب المسكوت عنه رسميًا، لكن يحدث أحيانًا أن تنشر تصريحات هنا وإشارات هناك، تتساءل وتتوقع بأن جمال مبارك يجري إعداده لدور قيادي ربما يصل لأن يخلف والده في الحكم . ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من هذا العنوان العريض إلى تفاصيل سيناريو يقول إن تمرير الخلافة لن يحدث (بعد عمر طويل)، لكنه ربما يتزامن مع نهاية فترة الولاية الحالية للرئيس مبارك الذي سيوكل للحزب مهمة اختيار بديل له، وبالطبع سيختار الحزب ـ بالإجماع ـ جمال مبارك ليطرح اسمه كمرشح للحزب الوطني الحاكم ليخوض الانتخابات الرئاسية مع quot;منافسين ورقيينquot; وسيفوز بها من دون الاضطرار لممارسة أي شكل من أشكال التزوير، وبعد ذلك يجري تنصيبه رئيسًا للبلاد كما يقضي بذلك الدستور المصري والتعديلات التي أدخلت عليه لتنطلق مرحلة جديدة في مصر .
ومن هنا طرحت (إيلاف) سؤالها في استفتاء الأسبوع عما إذا كان انتخاب جمال مبارك رئيسًا لمصر سيشكل خطوة إيجابيّة، باعتباره أفضل البدائل الأخرى، أم هي على العكس من ذلك خطوة سلبيّة قد تنذر باضطرابات واسعة وتهدد الاستقرار في بلد مركزي إقليميًا مثل مصر .
جمال رئيسًا
كانت هذه أبرز الخطوط العريضة للسيناريو الشعبي الذي يتردد في كل مكان داخل مصر وفق تفاصيل تزيد هنا وتنقص هناك وباستخدام مفردات دبلوماسية من هذا الفريق، وحادة من ذلك الرهط، ومطعمًا كعادة المصريين بعشرات النكات والتعليقات، لكن لا يخرج الأمر عن صلب هذا التصور الذي يسوق انصاره حزمة من الأدلة والقرائن على صحته ومنطقيته، رغم تواتر الإنكار الرسمي لخلافة جمال التي بات ينظر إليها باعتبارها ردودًا دبلوماسية، تقتضيها طبيعة الموضوع الحساس والمرحلة الراهنة .
لكن بالطبع سيثير ذلك السيناريو المفترض ردود فعل متباينة وإن كان يشوبها جميعًا الترقب وانتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من تطورات وتداعيات لم تزل في رحم الغيب حتى الآن، لكن ومع الاحترام الكامل للمعارضين لهذا الطرح منذ بدايته كإرهاصات مع أول ظهور لجمال مبارك، غير أن مزيدًا من التأمل ورؤية الصورة من كافة جوانبها تثير تساؤلات مشروعة، كما تفرض علامات استفهام ضرورية، وجميعها تدور حول هذا الإنكار المسبق للأمر الذي أعلنه الرئيس المصري حسني مبارك ونجله عدة مرات، حتى يقطعا الطريق على اللغط والجدل حول مسألة أكدا إنها غير واردة، في ما يقول البعض، إنه لو جاء جمال أو غيره فهذا خيار الشعب الذي ينبغي احترامه .
ومع أن مبارك الأب والابن يحرصان في الوقت الحالي على نفي إمكانية أن يكون جمال يمضي نحو رئاسة مصر، quot;نحن لسنا سوريةquot;.. هكذا قال الرئيس مبارك لصحيفة (واشنطن بوست) وأضاف ما هو مناسب لسورية (تعيين بشار رئيسا خليفة لوالده) لن يحدث في مصر، وجمال نفسه قال في المسألة ذاتها: quot;هناك فرق كبير بين شغل المناصب السياسية وبين ان تكون سياسيًا، وطالما كان والدي في الحكم فلا توجد لدي أي نية في شغل منصب سياسيquot; .
ووسط هذا الجدل يحق لنا، بل وربما ينبغي علينا أيضًا أن نتساءل: (لماذا لا؟ ولماذا نعم؟) ، سعيًا لرصد يتسم بالشفافية ومحاولة تسمية الأشياء والأحداث بمسمياتها في سياق ينشد الموضوعية، فلماذا لا يكون من حق جمال مبارك أن يسعى للأمر أو يسعى الأمر إليه ؟
لكن يجب علينا أيضًا أن نتساءل، إن كان ذلك سيشكل تغييرًا حقيقيًا وملموسًا يلائم المستقبل الذي كان أول شعار يرفعه جمال مبارك في مطلع ظهوره العام من خلال جمعية quot;جيل المستقبلquot; ؟، ثم ما هي نسبة المفاسد في مقابل المنافع المترتبة على ذلك السيناريو المفترض؟
مؤيدون
ونبدأ بالجوانب الإيجابية، التي يمكن أن نوجزها في عدة نقاط رئيسة هي :
إن جمال مبارك سيكون نقلة نوعية من سيطرة العسكرية على مؤسسة الرئاسة، فالرجل لم يكن يومًا عسكريًا، وبهذا سيكون أول مدني يجلس في (قصر عابدين) منذ حركة يوليو 1952، وهذا سيدشن عصرًا جديدًا يؤكد حقيقة واقعة الآن وهي إن جيش مصر هو جيش محترفين، وليس جيشًا مسيسًا كما هو حال الجيوش في كثير من بلدان المنطقة، وفي الوقت نفسه يفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني السياسية منها كالأحزاب، أو المهنية منها كالنقابات، أو الحقوقية كمنظمات حقوق الإنسان، والخدمية كمؤسسات الرعاية والعمل التطوعي وغيرها، ومن المعلوم أن مجمل أداء هذه المنظمات معًا هو معيار فاعلية أي مجتمع وأي نظام حكم مستقر وراسخ .
إن جمال مبارك ابن ثقافة عصرية، وسيكون من المستحيل اختطاف القرار منه لصالح الحرس القديم الذي فقد مبررات بقائه، بعد أن اتسعت الهوة بينه وبين المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ولا اختطاف القرار أيضًا لصالح التيارات الراديكالية التي لم تزل تردد خطابًا ينتمي لحقبة quot;الاتحاد الاشتراكيquot; سيئ الذكر، ولا لصالح فصيل الانتهازيين الذين يرفعون شعارات دينية ويشيعون قيم التخلف الاجتماعي والفكري، ويروجون لذائقة التطرف في المجتمع .
كما إن جمال مبارك بهذه الثقافة السياسية العصرية، وذلك الانفتاح على العالم المتحضر يمكن أن يقبل أن يكون رئيسًا سابقًا ذات يوم، إذا أفضت نتائج أي انتخابات حرة لاحقة إلى ذلك الأمر، فالرجل لم يأت على ظهر دبابة، ولا يحمل بين كتفيه خاتم الملك المقدس، بل هو مجرد شاب عصري، سافر وأقام وعمل في الغرب، ورأى بعينه التداول السلمي على السلطة، وكيف أفرز مجتمعات قوية تقوم على المؤسسات لا الأشخاص، وكل مسؤول أو مواطن يعرف دوره وواجبه وحقوقه، ولا يزعم لنفسه حقًا تاريخيًا ولا إلهيًا .
إن خبرة الحزب الأخيرة كشفت بوضوح أن جمال مبارك ليس راضيًا عن هيمنة quot;عجائز الحزبquot; من الحرس القديم، الممسك بكل مقدرات الحزب منذ نحو ربع قرن، وأعلن ذلك بقوله quot;إن مناقشات داخل الحزب في إطار ديمقراطي أظهرت الرغبة لدى قطاعات كبيرة بالتغيير والتطوير وتوسيع دور الشباب، بعد أن أتاح المناخ السياسي في البلاد ظهور قوى جديدة قادرة على التعاطي مع التفاعلات الدولية التي فرضت تعميق الإصلاح والتطويرquot;، وبالتالي فإن فريق إدارته لن يكون من هؤلاء، وإن اضطر تحت ضغط متطلبات المرحلة الانتقالية أن يستعين بهم حتى تستقر الأوضاع، ويجري استيعاب الأمر داخليًا وخارجيًا.
إن نظرة على كل الأسماء والشخصيات التي يمكن أن تكون مطروحة في هذا السياق، ومقارنتها مع جمال ستكون نتيجة المقارنة الموضوعية في صالح الأخير، لأن الرجل لا يوجد في تاريخه ما يشين، ولم ينخرط في دوائر فساد، فهو ابن تجربة نظيفة سياسيًا ومسلكيًا، لا شبهة فيها تمس سيرته الذاتية .
معارضون
لكن مقابل هذه النقاط الإيجابية لصالح جمال مبارك، فهناك ما يمكن وصفه بالمخاوف أيضًا، يمكن اختصارها بأنها تكاد تنحصر في مسألة بقاء الحال على ما هي عليه كأن يلعب فريق الانتهازيين الذين تربوا على موائد التنظيمات الشمولية سيئة الذكر مثل (الاتحاد الاشتراكي) وشكلت قناعاتهم كيانات سيئة السمعة مثل (منظمة الشباب)، ثم ما لبثوا أن قلبوا لتلك القناعات والانتماءات ظهر المجن، ليرتدوا مسوح دولة (العلم والإيمان) أيام الرئيس الراحل أنور السادات، وبالبراعة نفسها تكيفوا مع مقتضيات مرحلة الرئيس مبارك، ما يعزز مخاوف أن يتمكن هؤلاء وقد اكتسبوا خبرات هائلة في أصول quot;فن البقاءquot;، وإبقاء الحال على ما هي عليه، وهو ما حدث ويحدث الآن في سورية مثلاً، حين تفاءل الناس خيرًا بتولي بشار الأسد سدة الحكم خلفًا لوالده، لكن بعد سنوات من ذلك اتضح ان الحال مازال يراوح مكانه دون تغيير يذكر، فمازال الانتهازيون هناك يسيطرون على الجانب الأكبر من صناعة القرار السياسي، وهو أمر مرشح للاستنساخ مصريًا، ولعلنا لسنا بحاجة لتسمية أي من النماذج الانتهازية المحيطة بدائرة صنع القرار المصري أو السوري، فهم معروفون للكافة، ومهما قدموا للمواطنين من وعود معسولة، وأوراق عمل، فلن يصدقها أحد، حتى لو صدقوا فلن يشفع لهم ما تبقى من أعمارهم لتجميل تاريخهم العريق في الفساد السياسي والانتهازية والاستئثار بالأمر .
ويؤكد المعارضون لهذا السيناريو المفترض أنه لا يمكن لأحد أن يعترض من حيث المبدأ على تطلع جمال مبارك لمنصب رئيس الجمهورية او ترشيحه له، اذا كان اختياره يتم بطريقة ديمقراطية، وفي ظل توافر أوضاع ديمقراطية صحيحة وحقوق متساوية للمواطنين وللأحزاب، ولكل فرد يتطلع الى تولي هذا المنصب، وهي أوضاع لا تتوافر في مصر حاليًا . ثم إن التغيير في حد ذاته سنة من سنن الله في خلقه، فما بالنا لو كانت هناك بالفعل مبررات لتغيير هذه الوجوه التي تكلست في مواقعها منذ دهر، ولم تعد لديها القدرة على الإبداع حتى بحكم تقدم السن، ولن نتطرق إلى مسألة خبراتهم العتيقة التي تجاوزتها الأحداث الراهنة محليًا وإقليميا ودوليًا .
ويقول ناشطون في ما يعرف بالمبادرة الوطنية لرفض quot;التوريثquot; في بيان لهم، إنهم يستشعرون مخاطر جسيمة تلوح نذرها في الشارع المصري المحتقن بكل طوائفه، كما يعلنون رفضهم القاطع لمبدأ التوريث، إيمانًا بتناقضه مع مبادئ الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص بين أبناء البلد الواحد، ولعدم قناعتهم بقدرات وإمكانات جمال مبارك لتولي هذا المنصبquot;، كما ورد في بيانهم على موقعهم الإلكتروني .
تساؤلات
وبعيدًا عن مناقشة المخاوف السابقة، تبقى في النهاية نتائج الاستفتاء ودلالاتها، فلابد من أن نعترف بأهمية التساؤلات التي ربما كان سببها هو جهل الناس ـ وأنا منهم ـ بما يفكر به جمال مبارك شخصيًا، ورؤاه حول كافة القضايا المطروحة على الساحة بعيدًا عن المطولات التي أمطرنا بها منظرو الحزب، لهذا تبرز أهمية تواصله الحقيقي مع الجماهير الحقيقية في سياقات أوسع من كهنوت الحزب، الذي أرى أنه مازال يعاني من تنفذ الحرس القديم بصورة تحول بينه وبين ملايين المواطنين، الذين سينبع منهم الدعم لمشروع الدولة الديمقراطية الليبرالية القوية اقتصاديًا، والتي يمكن أن تعيد لمصر دورها التاريخي الذي تستحقه كمصدر للحداثة والتحضر في المنطقة بأسرها كما كانت دائمًا... وأغلب الظن أن أحدًا لن يرد على هذه التساؤلات، ويبقى الأمر برسم التجاهل والخطاب الرسمي، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا .
التعليقات