كامل الشيرازي من الجزائر:يترأى منظر عاصمة الجزائر من مينائها البحري وكأنه عرض فريد لمدينة أبدعتها يد الطبيعة في شكل يتهادى نحو الأزرق الكبير وبيوت تتشبث بالمرتفعات و كأنها تخشى الانجراف نحو البحر، هذه المدينة البيضاء التي استحالت إلى سوداء، هي بالأحرى لغز لا يملك مفاتيحه إلا تلك الدور الضاربة جذور بعضها في عمق التاريخ.
مثار تشويق وجدل هي عاصمة الجزائر إذ تعيش على وتيرة سكانها و كأنها خلية تعج و تموج بأهلها خلال
النهار لتتلاشى بقدوم الظلام تتحول وتتجدد على وتيرة تلك الحركات الدؤوبة لتتماهى أخيرا في بوتقة قاطنيها، أما القلب النابض للمدينة فهو دون ريب حي القصبة العتيق الذي يمثل رفقة مسجد كتشاوة الشهير وضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي، إضافة إلى حصن 23 وقصري الداي ولالا خدواج، ذاكرة ماضي غني وصاخب، تحت الأعين الساهرة لعاصمة لا زالت محافظة على شموخها رغم تعاقب صروف الأيام وويلات الزمان.
لا يمكن اختزال الجزائر العاصمة في حي القصبة لوحده، فهي على غرار كثير من عواصم العالم يمتد مركز مدينتها ويتفرع ويتشعب وعدد سكانها ما فتئ يرتفع تحت وطأة النزوح ومآسي سنوات العنف الدموي، ما جعل مدينة بني مزغنة وبولوغين بن الزيري، تتمدد لتستوعب كما متناميا من العاصميين، كان عددهم لا يتجاوز قبل 47 عاما حدود عشرات الآلاف، أما الآن صاروا يتجاوزن الستة ملايين، تنمو بعاصمة الجزائر أحياء وتختبئ أخرى تحت وطأة وتداعيات الزمن الذي ولى، فهل يا ترى الجزائر البيضاء أسطورة أم حقيقة؟
وعلى غرار جميع حواضر العالم، تعد الجزائر العاصمة (عُويلم) صغير يضم المتناقضات ويحتضن شخوصا من آفاق شتى، تختلف الحياة في هذه المدينة من مكان لآخر، ومن حي لغيره بمجرد النزول من أي سفينة بميناء الجزائر، تطأ قدما الزائر أرض المدينة فيجد نفسه في أحضان ساحة الشهداء الشعبية، هذه الساحة التي بيع فيها أكبر كاتب في تاريخ اسبانيا quot;ميغيل دو سيرفانتيسquot; (1547 ndash; 1616م) مؤلف رائعة الآداب العالمية quot;دون كيشوتquot;.
وبعزة وكبرياء، تأبى الجزائر العاصمة الخضوع، إذ آلت على نفسها الاحتفاظ بذاكرة جزء كبير من تاريخ البلاد، ويتملك ذوي الفضول التوّاقين إلى البحث عن أحاسيس جديدة، إلى الاستمتاع بزيارة هذه العاصمة، فتستقبلهم الأخيرة وكلها حياء وخجل، بما أنّ الأسوار والحصون التي صنعت أمجادها قد أضحت اليوم أطلالا، أما دُويراتها ذات الطابع الموريسكي فمختمرة بأسوار وكأنها تستتر حفاظا على عذريتها.
البياض الظاهري للجزائر العاصمة يعود إلى اللون الذي طالما ميزها، إذ كانت في ماضي الأزمان تصبغ بنصاعة لون الجير، إلا أنّ الواجهات قد بدأ يغزوها مع الأيام سواد القدم وفظاعة التدهور، ما جعل التسيب واللامبالاة وعدم الاكتراث بالنظافة تسيطر كعملة متداولة في مدينة لطالما ألهمت قرائح عديد الشعراء والفنانين.
تنوع سكاني يصنع سحر المدينة
يميّز مركز المدينة حيان عتيقان من أكثر أحياء العاصمة كثافة سكانية، هما باب الوادي وبلوزداد، إذ هما قطبان لتجمهر سكاني كثيف ومتنوع تعكسه تلك الأمواج البشرية المتدفقة على مدار ساعات اليوم في عجلة من أمرها وفي حال متوترة وكأنّ هؤلاء المشتهرون بعصبيتهم الزائدة عن اللزوم أحيانا، في هروب دائم من ضيق البيوت واهتراء الأقواس والأعمدة وقسوة الظروف.
بيد أنّ الجلبة الآتية من أعماق الأسواق والمتاجر توحي بحاجة العاصميين الماسة إلى التواصل، وتتمظهر سيماهم الطيبة والبسيطة، حتى وان كانوا سريعي الغضب والانفعال، كما تتميز هذه الأمكنة التي كانت في وقت مضى مأهولة بفئة المعمرين البسطاء بحركة دؤوبة دائمة الذهاب والإياب، أما اللغة التي يتداولها أهل هذه الأحياء فهي مباشرة وصريحة، خالية من أي تكلف أو زخارف الكلم، هي نوع من الحديث لا يفقه كنهه إلا أهله، فالحياة بسيطة لكنها قاسية، تماما مثل حكاية الرفاهية التي تبدو على غير عادتها هنا جافلة أو عكس ذلك مجرد فخفخة وتفاخر أو هي علامة من علامات الحظوة.
وسط مدينة الجزائر منهك اليوم ببناياته الفارهة، لكنه لا زال محافظا رغم ذلك على هيبته محتضنا شققا
واسعة باذخة (ستاندينغ) تقطنها فئة سكانية من متوسطي الحال لكنهم مختلفون عن أولئك الذين يسكنون الأحياء الشعبية المكتظة، أما أعالي الجزائر فسكانها فئة فريدة غامضة ومُنزوية في الغالب خلف أسوار عالية ذات فيء وظلال تميز لغة تواصلهم لكنات أجنبية متداخلة على نحو غريب، هي على أي حال عنوان لمستوى اجتماعي مرفه مع النزر القليل من quot;التهذيبquot;، في وقت تنتشر في ضواحي العاصمة تلك الأحياء الشهيرة المعروفة بـquot;المراقدquot;، أقيمت على عجل للإحاطة بنمو سكاني جارف مما خلّف تناقضا صارخا بين هندسة المعمار إبان فترة الاحتلال الفرنسي، وتلك المشيدة بعد استقلال الجزائر في الخامس يوليو/تموز 1962.
توزع السكان على أحياء الجزائر العاصمة غداة كوارث طبيعية شتى وحملات عدة للتخلص من أحياء الصفيح، هي فئات سكانية مختلفة جاءت من آفاق متعددة تتعايش لكنها تحتمل بعضها بعضا بصعوبة، تتعالى الآن فيما تبقى من الجزائر بكل حاراتها و ضواحيها كأبراج سكنية شاهقة جد متطاولة مكفهرة وباردة، هي إسمنتية الصنع أو جاهزة أو زجاجية تصلح إما للتجارة أو الأعمال، هو تناقض قديم/جديد يفتقر لأي مسحة جمالية وأبعد ما يكون جاذبية بالنسبة لمدينة ذات طابع متوسطي.
إن الشيء الملفت والمؤسف في العاصمة بلا منازع، هو ذاك الغياب المؤلم للمساحات الخضراء والحدائق الظليلة أو على الأقل الحظائر الجديرة بهذا الاسم، فغياب الهواء النقي مع ما تنفثه آلاف السيارات التي تحتل شوارع المدينة بشكل يومي، يزيد من توتر وقلق السكان الذين يعانون في ذات الوقت من مشاكل النقل وغلاء المعيشة وعراقيل الإدارة.
كسر الرتابة
تبقى الجزائر العاصمة رغم كل شيء، مدينة جميلة مقاومة بأحيائها الفاتنة ومناظرها الأخاذة وسواحلها البحرية ذات الشواطئ المكتظة ومنتجعات سياحية باهظة، إلا أنها تشكل متنفسا يمنح للمصطافين الباحثين عن الراحة والاستجمام فضاءات تزخر بالأمن والأمان، ويمثل فصل الصيف أفضل أوقات السنة يُقبل فيه السكان المحليون على البحر بكل وجدانهم وعشقهم وجوانحهم، ليستلذوا بالحياة ويصغون لحلو الكلام ويرقصون على إيقاع الأعراس وأنغام الحفلات وسائر المباهج الأخرى، ويدفع حر الصيف الشديد بالعاصميين إلى خارج مدينتهم المثخنة، بحثا عن نسمة هواء عليل أو مكان مريح يتنسمون فيه أريج مشروب منعش أو ساخن.
إن الأناسي الكثيرة التي تحتل حصباء الرمال الذهبية في أوقات النهار بحثا عن الانتعاش وسط المياه اللازوردية للمتوسط هي التي تجتمع بمجيء المساء في حلقات عائلية حميمية فوق أرض ناعمة الرمال، لارتشاف أكواب من الشاي أو القهوة تحت هدير صوت مد وجزر أمواج البحر المرتمي في أحضان الظلام الذي يبعث الآمال ويقوّي الأفئدة بجيرته المطمئنة، كما يخال للمرء وكأنّ الآماسي والسهرات الطويلة ترنو إلى مرافقة الناس في دعّتهم اللذيذة ورتابتهم المعهودة المتأنية التي لا يفقه كنهها إلا أهل الأمصار الدافئة.
أما في أوقات السنة الأخرى، فإنّ الجزائر العاصمة ضاجة نهارا، هادئة مساءا، فالأنوار التي تميز عديد العواصم الأخرى تجدها خافتة هنا اللافتات المضيئة شحيحة والمباني عارية والأزقة قاتمة، أما الشوارع فمُقفرة تكاد تكون المحال التجارية موصدة أبوابها، أما وسائل النقل فكأنها في إضراب، ما يجعل ثمة إجماع على أنّ عاصمة الجزائر quot;ميتة ليلاquot;.
وتظل عاصمة الجزائر ذات هيبة وجلال بماضيها التاريخي التليد والثوري المجيد، فقد كانت مهدا لأبطال أشاوس وجدوا في أحضانها أيام الثورة الملاذ الدافئ، وتلقت الضربات الموجعة في سبيل احتضانهم واستقبالهم في أزقتها الضيقة وأقبيتها وممراتها التي حافظت على مناعتها رغم بطش الاحتلال الفرنسي.
التعليقات