سبخة جافة في أهوار العراق |
ذات يوم، كانت رقعة الأرض الممتدة الى الشمال والشرق من محافظة الرقّة السورية على نهر الفرات سلة غذاء المنطقة بحقولها العظيمة من القمح والشعير. ولكن الآن، بعد أربع سنوات من الجفاف أصبح هذا quot;الهلال الخصيبquot; الذي يشمل أجزاء واسعة من العراق المجاور مجرد خلاء.
انهارت أنظمة الري التي تعود إلى عهود قديمة وجفت موارد المياه الجوفية ما أتى على الزرع والضرع، وصارت الأرض التي تزرع القمح والشعير للبقية تستوردهما من الآخرين. فهجر الناس قراهم وبلداتهم ونصبوا خيامهم في العراء المحيط بالمدن والبلدات الأكبر سواء في سوريا أو العراق.
وتبعا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة الشهر الحالي فقد تسبب هذا الجفاف المريع في إيقاع ما بين مليونين وثلاثة ملايين شخص في سوريا وحدها في مخالب الفقر. وفقد الرعاة في الشمال الشرقي 85 في المائة من حيواناتهم وتأثر 1.3 مليون شخص في هذه المنطقة بهذا الوضع.
وتبعا لتقرير خاص على صفحات quot;نيويورك تايمزquot; يوم الثلاثاء، يقدر أن 50 ألف عائلة هجرت المنطقة العام الحالي لتنضم الى عشرات آلاف الأسر التي فعلت الشيء نفسه خلال الأعوام القليلة الماضية. ويذكر أن سوريا تكتظ أصلا بأكثر من مليون لاجئ عراقي فروا من بلادهم في أعقاب حرب 2003.
ويقول المزارع السوري أحمد عبد الله (48 عاما): quot;كان لي 400 فدان من القمح.. صارت خلاء الآنquot;. ويضيف أنه يسكن الآن مع زوجته وابنائهما الاثني عشر في خيمة من الخيش والبلاستيك مع العديد من اللاجئين الآخرين. ويقول: quot;أجبرنا على الفرار بلا شيء في جيوبنا أو بطوننا. لا مال ولا وعمل ولا أملquot;!
وطبيعي أن الانهيار الزراعي هنا - وهو ناتج عوامل طبيعية وأخرى بشرية - صار يشكل تحديا اقتصاديا هائل الأبعاد على كل من حكومتي سوريا والعراق اللتين تعتمدان بشكل متنام الآن على استيراد الأطعمة ومياه الشرب.
وسوريا التي كانت مصدرة للقمح في السابق صارت تستورده الآن ايضا. وبينما تحاول دمشق اجتذاب المستثمرين مع اضمحلال احتياطيها النفطي، تأتي مسألة الجفاف لتفاقم مشاكلها، خاصة وأن منطقته هي ايضا منطقة الجالية الكردية المتململة.
والعراق، الذي يشكو وبال الحرب يواجه مشكلة النقص الحاد في مياه الشرب سواء في شماله أو جنوبه وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخه. وقد شكا هو وسوريا أيضا من تناقص نصيبهما من مياه الفرات بسبب السد الهائل الذي أقامته تركيا على أراضيها. ومن المحتم لهذا الوضع ان يزيد في التوترات القديمة بين العملاق التركي من جهة والجارين العربيين من الجهة الأخرى.
وقد بدأت الحكومة السورية تقر بحجم مشكلة الجفاف فشرعت في وضع خطة قومية لمواجهته رغم انها لم تضعها موضع التنفيذ بعد. ويقول الدكتور الأميركي - السوري ايلي الحاج، الذي كتب رسالته للدكتوراه في التصحر، إن سوء التخطيط السوري هو الذي خلق المشكلة في المقام الأول. ففي الفترة 1988 - 2000 أنفقت حكومة دمشق 15 مليار دولار على مشاريع للري غير مدروسة بشكل جيد ولذا فلم تثمر أيًّا من المطلوب منها.
كما ان الحكومة تزرع القمح والقطن في مناطق قليلة المياه نسبيا فتجعلهما عرضة للجفاف. ويبدو أن إصرارها على هذا ينبع من اعتبارها القمح والقطن quot;جزءا من الهوية السوريةquot; وحصناً للبلاد من اعتمادها على الآخرين.
وثمة أدلة واضحة على أنشطة عديدة غير مشروعة في سوريا والعراق عندما يتعلق الأمر بالمياه الجوفية quot;التي تتناقص بمعدلات مخيفةquot; تبعا لأوليفر دو شوتر، مبعوث برنامج الامم المتحدة للغذاء الى المنطقة. لكن الحكومة السورية لا تدرك حجم المشكلة لأنها تفتقر الى الإحصاءات المتعلقة بهذا الأمر.
وفي محافظة الرقة السورية نفسها يشتكي العديد من المزارعين من ان آبارهم إما نضبت فجأة أو أن مياهها صارت ملوثة. ويقول خلف عايد، وهو مزارع وراعي اغنام يتولى شؤون المُهجَّرين من الشمال الشرقي: quot;كانت لعمي بئر عمقها 70 ميترا. فصار عمقها 130 مترا من المياه المالحة. كيف؟ لا أحد يدريquot;.
وكما هو الحال في بقية الدول العربية، فيمكن القول إن اللائمة تقع على تفشي الفساد وسوء التخطيط والإدارة الفاشلة. ويقول المحلل الاقتصادي السوري نبيل سكر بهذا الصدد: quot;المشكلة الحقيقية تتمثل في الأشخاص أصحاب النفوذ الذين لا يأبهون بالقوانين واللوائح، وليس بمقدور أحد إجبارهم على ذلكquot;.
وتبعا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة فقد تشرد 100 ألف عراقي على مدى الأشهر الاثني عشر السابقة بعدما نضبت 70 في المائة على الأقل من القنوات المائية الجوفية التي ظلت تمد الناس بالماء منذ العصور السحيقة. ويقول الدكتور الفرنسي - العراقي زياد العلي، وهو محاضر في quot;معهد الدراسات السياسيةquot; في باريس: quot;رأينا قرى بأكملها دفنت في الرمال العراقيةquot;.
ويضيف الدكتور، الذي عاد قبل شهرين من جولة له على محافظتي كركوك وصلاح الدين لتفقد الأحوال المائية والزراعية فيهما: quot;الوضع بائس حقاquot;. ويعاني جنوب العراق ايضا انهيار زراعته بشكل شبه كامل بسبب نقص المياه المنقولة من الفرات وتجفيف الأهوار.
وفي دمشق يقول المسوولون الآن إنهم يتوقعون مساعدات من تركيا، في اعقاب تحسن العلاقات الأخير بعدما ظلت متوترة لفترة من الوقت. لكن هذه المساعدات، إذا جاءت، فستأتي متأخرة بالنسبة إلى العديد من القرى التي هجرها أهلها بالكامل في شمال سوريا والعراق.
التعليقات