تزرح اليمن تحت وطأة الإرهاب والفساد والحرب والإنفصال، وتحوّلت ساحاتها إلى مرقد للقاعدة، فهل الجهاديون السابقون هم مشروع جهاديين تائبين ؟

أناط اسامة بن لادن زعيم تنظيم quot;القاعدةquot; بناصر البحري كبير حراسه الشخصيين، مهمات جسيمة من بينها ايجاد زوجة رابعة يمنية له، واطلاق الرصاص عليه إذا واجه خطر الوقوع في الأسر حيا.وتقول فكتوريا كلارك مراسلة صحيفة التايمز التي التقت البحري في صنعاء ان سلوكه دافئ وحيوي، ابتسامته خاطفة وحركاته رشيثة، ساحر، دمث ويرتدي قميصاً مكوياً حديثاً وساعة باهظة الثمن وفوطة ذات نقشة رصينة. وهو بعيد عن اي فكرة غربية لصورة الجهادي العنيف. وتفترض كلاك انه quot;عرف خطأ اساليبه واعاد تأهيل نفسه من الأساسquot;.

وكشف البحري ، وهو من جنوب اليمن ، انه ولد في ميناء جدة حيث كان والده وجده عاملي ميكانيك في شركة بن لادن للانشاءات.وغادر المملكة العربية السعودية عام 1990 حين كان في الثامنة عشرة من عمره، وذلك بعد سماعه خطبة القاها اسامة بن لادن، وتوجه الى الجهاد ضد الروس في افغانستان. وفي البوسنة حيث امضى البحري فترة التسعينات، عمل في تدقيق الدوافع الدينيّة للمجندين الجهاديين من اجل القتال في سبيل قضية مسلمي البوسنة.

وانضم البحري الى بن لادن في قندهار عام 1996، لكنه غادر افغانستان في اكتوبر عام 2000، بعدما اختلف مع بعض رفاقه إثر تعرضه للإعتقال والسجن في صنعاء عقب الهجوم على المدمرة الاميركية quot;يو اي اس كولquot; في عدن.وكان البحري منجم معلومات للمحققين الاميركيين الزائرين في خفايا مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر، وأُفرج عنه بعد موافقته على المشاركة في دورة لإعادة تثقيفه دينياً وتعهده أمام الله بأن لا يفعل ما يسيء الى حكومة الرئيس علي عبد الله صالح. ومنذ عام 2002 اشتملت نشاطاته على العمل سائق لسيارة اجرة، وثلاثة لقاءات مع الرئيس صالح ودورات في التسويق والبيع والبرمجة اللغوية ـ العصبية شبه العلمية بعد ما أصبحت رائجة.

هذا الرجل الذي توسل ذات يوم كي يسمح له بن لادن بالمشاركة في عملية استشهادية، بلغته انباء عن ان الرئيس اوباما لن ينفذ وعده بغلق معتقل غوانتانامو بحلول يناير 2010، ودون ضمانات ثابتة بإيداع معتقلي غوانتانامو الـ 215 السجن أو إخضاعهم للمراقبة الشديدة حين يعودون الى اوطانهن ـ وهي ضمانات أظهر اليمن عجزه عن تقديمها علما بأن أكثر من تسعين يمنياً يشكلون أكبر مجموعة عربية في المعتقل ـ واميركا تعتبر ان الخطر الذي يترتب على إخلاء المعتقل كبير للغاية.

مأزق اوباما دفع البحري الى التفكير، quot;إذا كان رئيس اميركا لا يستطيع الوثوق بالرئيس صالح لإبقاء المعتقلين اليمنيين بعيدا عن متاعب الجهاد ، لماذا لا يكلفه هو ناصر البحري، بفتح وادارة مركز آمن لإعادة تأهيل المعتقلين العائدين واعادة تثقيفهم؟ مَنْ يتفوق على جهادي سابق ـ مسلح الآن بقدرات اقناع لغوية ـ عصيبة ـ في فهم الجهاديين الآخرين ومساعدتهم؟ ولا تنتهي القصة عند هذا الحد بل اشار البحري الى انه رغم شخصيته اللطيفة وحيويته، ليس بالرجل الذي يمكن ان تتعامل معه الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب.

لم يكن البحري وحده من حذّر من تحول اليمن الى افغانستان ثانية، ومن الفراغ الذي لن يجد تنظيم quot;القاعدةquot; صعوبة في استغلاله وملئه. ولكنه طرح رؤية اوسع، تكون العربية السعودية فيها محاصرة بين فكي كماشة معادية تتألف من عراق، ملأ الجهاديون الفراغ الذي تركه رحيل القوات الاميركية عنه، ودولة اسلامية حديثة النشأة في اليمن، مع سير الصومال على الضفة الأخرى من البحر الأحمر في الطريق نفسه. واعلن البحري quot;حينذاك سيكون الأمر إما معنا او ضدناquot;، كما قال بوش. فتنظيم القاعدة هو الجماعة الوحيدة في العالم الاسلامي التي لديها برنامج متماسك للمستقبل. ونحن نريد ان يكون العالم كله موحداً وعلى مستوى واحد مع الغرب والصين والهندquot;، بحسب البحري.

وتمنى البحري في معرض حديثه مع الصحفية فكتوريا كلارك لو انه لم يترك افغانستان quot;ويا ليتني كنتُ لم أزل مع شيخيquot; ، في اشارة الى اسامة بن لادن. وعن هجمات 11 سبتمبر قال البحري quot;لأن الوقت حان كي تذوق المجتمعات الغربية بعض المرارة التي يذوقها العالم الاسلامي. ولكننا ضد الحكومات ولسنا ضد الشعبquot;. واضاف البحري quot;ان الغربيين احرار في استبدال حكوماتهم عندما لا يحبون ما تفعله. وآمل ان اتمكن ذات يوم من العودة الى الجهاد ولكن إذا لم أعد فآمل ان يكون ابني مجاهداquot;.ولكن ابن البحري لم يُبد اهتماما بآمال والده. فهو في الحادية عشرة من العمر ويقول البحري انه يريد ان يكون ميكانيكيا.

تخرج الصحفية فكتوريا كلارك من لقائها مع ناصر البحري حائرة وقلقة، بانطباع مؤداه quot;ان البحري ليس مغفلاً ولا ساذجاًquot; دافعا اياها الى خلاصتين، quot;أولاً ان يكون المرء جهادياً سابقاً لا يعني انه جهادي تائب، وثانياً ان الإقبال بحماسة على اعتماد الممارسات الغربية في العمل والحلم بعقد مع الحكومة الاميركية ليس مانعاً طبيعياً امام ارتكاب فظائع ضد الحكومة الاميركية نفسها والشعب الاميركيquot;. كما تلاحظ الصحفية كيف ان اليمن يتحدى ويخلط تسلسل الأفكار المنطقية والسرديات المنتظمة التي يفضل الغربيون ان يتعاملوا بها. وهي تقول ان التحديدات التي تفرضها هذه المفارقة، على قدرة المراقب الخارجي على فهم البلد وشعبه، قد تفسر من احدى النواحي السبب في عدم دراسة اليمن وفهمه كما تُدرس وتُفهم المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.

وقد تكون الاهتمامات الأمنية عاملاً آخراً يسهم في ذلك. quot;وإذ تعتبر الحكومات الغربية ان اليمن أخطر من ان يزوره أحد دون ان يكون لديه عمل ضروري فان هذا البلد الأفقر والأكثر قبلية في الجزيرة العربية يزخر بالسلاح ويُحكم حكماً فاسداً ويعاني من تمردين داخليين احدهما امتد الى العربية السعوديةquot;.وبعد فترة مديدة كانت وكالات الأنباء تكتفي بوصفه quot;موطن اجداد اسامة بن لادنquot;، وأخذ اليمن منذ مطلع 2010 يستقطب اهتمام العالم أكثر من أي وقت مضى.

في يوم عيد الميلاد حاول انتحاري لكنه فشل في تفجير طائرة قادمة من امستردام فوق ديترويت. واقتُفيت آثار المؤامرة الى اليمن حيث قال المشتبه به انه تدرب وتسلح بالعبوة الناسفة لتفجيرها على متن الطائرة. والآن إذ يأتي اليمن بعد باكستان وافغانستان في مجال اعداد الارهبيين وتدريبهم وايوائهم صار ـ أخيراً ـ يُنظر اليه بوصفه يشكل تهديداً خطيراً للأمن الدولي .كُتب وقيل الكثير عن مساهمة الدعم الاميركي لاسرائيل، ورد فعل الولايات المتحدة على هجمات 11 سبتمبر، في تجنيد عناصر للتنظيم وأقل من ذلك بكثير عن المساهمة التي قدمتها في انتشار الجهاد. والسؤال المتعلق بكيف يمكن ان يُحكم بلد مثل اليمن ـ أو تُحكم باكستان أو افغانستان أو الصومال ـ كدولة قومية وما إذا بالامكان ان تحكم كدولة حديثة ، له تأثير حاسم على قدرة الحاكم على مكافحة النزعة الجهادية.

وإذا كان حكم اليمن مهمة دقيقة وخطرة، بدقة وخطورة الرقص على رؤوس الأفاعي، كما يروق للرئيس صالح ان يشكوا للصحافيين الأجانب، فان دلالات ذلك خطيرة على الغرب. ولا بد ان تكون فائدة اليمن كحليف للغرب في الحملة العالمية ضد العنف الجهادي محدودة. ولكن الرئيس صالح ربما كان يحاول، كما يعتقد كثير من اليمنيين، ترحيل المسؤولية عن اخفاقاته اليهم.

ويمكن تلخيص قصة اليمن خلال نصف الألفية الماضية على انها سلسلة من المحاولات الفاشلة قامت بها قوى خارجية للاستعاضة عن هياكل اليمن وقيمه القبلية الراسخة بهياكل وقيم الامبريالية العثمانية اولاً، فالامبريالية البريطانية تالياً، ثم القومية العربية بنسختها الناصرية فالماركسية على الطريقة السوفيتية بعدها. ورغم ان نهاية الحرب الباردة اتاحت لليمنيين ان يوحدوا اشطار حظوظهم في دولة واحدة، فان الاندماج المتعجل الذي اتفقت عليه صنعاء وعدن في عام 1990 أدى الى حرب اهلية طاحنة قصيرة في عام 1994.بعد ستة اعوام انحسر مرة اخرى وبشدة الرهان على ازدهار جمهورية اليمن بسبب انتشار النزعة الجهادية. ويعمل تضافر الفقر المتفاقم في اليمن مع أُفول ثلاثين عاماً من حكم الرئيس صالح على إذكاء استياء شعبي يقدم خدمة مباشرة لتنظيم اقليمي متسع ومنتعش اتخذ من اليمن قاعدة له ـ انه تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية .