لندن: فجأة انحسرت الى خارج الأضواء قضايا في سخونة اللهب، مثل الأزمة الاقتصادية اليونانية التي تهدد بريطانيا في عظمها الاقتصادي. وتوارت فضيحة وزارة الخارجية البريطانية التي اقترحت أن يبارك بابا الفاتيكان خلال زيارته المزمعة للبلاد زواجا مثليا وأن يفتتح مستوصفا للإجهاض.. وتجاوزات أخرى. بل أن حمى الانتخابات نفسها صارت باردة بالقياس لما laquo;اقترفهraquo; رئيس الوزراء وزعيم العمال غوردون براون من ذنب يقضي عمليا الآن على آخر آماله المترنحة أصلا في التشبث بالسلطة.

الذنب المقترف جاء في شكل laquo;زلة لسانraquo; وصف فيها براون سيدة في روشديل، مانشيستر الكبرى، وجهت اليه سؤالين بأنها laquo;متعصبةraquo;. ومعلوم، ربما، أن الزعيم العمالي لم يصفها بذلك وحها لوجه وإنما في أذن أحد معاونيه وبعد أن اطمأن الى أنه في أمان سيارته. لكن ما لم يكن يعلمه هو أنه نسي إغلاق مايكروفونه اللاسلكي.. فصار كمن يتحدث الى بريطانيا بأركانها الأربعة.

ولدى علمه، أبدى براون قدرا هائلا من الجزع، وأعلن على الملأ اعترافه بالخطأ الفادح واعتذاره عنه. وفورا انتقل موكبه الى منزل السيدة، وهي متقاعدة في الخامسة والستين تدعى جيليان دافي يطلب زيارتها للاعتذار اليها شخصيا. وكان له ما أراد فأعلن لرجال الإعلام لدى خروجه من دارها أن الأمر برمته كان سوء تفاهم.. أنه laquo;لم يفهمraquo; حديثها وبالتالي فلم يكن يقصد الإساءة اليها. وأعلن للدنيا بابتسامة عريضة: laquo;لقد صفحت عنيraquo;! لكنه كان يعلم - ولغة جسده تشي بذلك - أن السيف قد سبق العزل وأنه ربما كان يلفظ آخر أنفاسه السياسية ويقذف بحزبه الى صقيع المعارضة بعد 13 عاما في دفء الحكم.

Brown faces crunch TV test after bigot ...
هفوة براون تُدخل حزب العمال في أزمة قبل أيام من التصويت
زعماء الأحزاب البريطانيّة يستعدّون للمناظرة الأخيرة

ولو ان براون كان يأمل أن يمنحه الصباح التالي شيئا من إشراق على نحو ما يعينه على المناظرة التلفزيونية الأخيرة التي يبني عليها كل آماله وحاولته الأخيرة لاستمالة الناخبين، فقد أوغل في التفاؤل الكاذب. فحتى الصحف الرصينة خرجت بعناوين وتعليقات مثل ما أوردته laquo;غارديانraquo; وهو: laquo;المرأة التي خرجت طلبا لحزمة خبز فحرمت براون من خبزهraquo;.. وlaquo;تايمزraquo; التي قالت: laquo;هفوة براون تغرق العمال في كارثةraquo;.. وlaquo;ديلي تلغرافraquo; التي حذرت من laquo;زلة اللسان التي قد تكلف براون الانتخاباتraquo;.. وlaquo;اندبندانتraquo; التي تحسرت بالقول: laquo;يوم كأي آخر حتى وقفت دافي على خشبة المسرح.. لماذا أقدم براون على هذه الحماقةraquo;؟

quot;مصائب قوم عند قوم.. كنوزquot;!

quot;مصائب قوم عند قوم.. كنوزquot;!.. وهذا القول يصح تحديدا على جيليان دافي، المرأة الواقفة حاليا في قلب العاصفة التي تزلزل مستقبل غوردون براون السياسي وتطيح فرص حزب العمال في التشبث بالسلطة.

فتبعا لقطب العلاقات العامة البريطاني، ماكس كليفورد، تستطيع هذه السيدة التي قذفت بها زلة لسان براون عندما وصفها بأنها quot;متعصبةquot; الى سماء الشهرة خلال أقل من ساعة من الزمن، الحصول على ثروة صغيرة (ما بين ربع المليون دولار الى ثلاثة أرباعه) في غضون الأيام المتبقية ليوم الانتخابات، وذلك عبر تلاوتها قصتها مع رئيس الوزراء بلسانها الى مختلف أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.

وأضاف قوله: quot;صحف التابلويد الموالية للمحافظين، مثل quot;ذي صنquot; وquot;ديلي ميلquot; على وجه الخصوصquot; على استعداد بلا شك لدفع بعض مئات آلاف الجنيهات في حال وافقت دافي على الإدلاء بما من شأنه رش الملح على جراح رئيس الوزراءquot;.

وعلى أية حال فمما لاشك فيه هو أن جيليان، وهي متقاعدة في الخامسة الستين من عمرها فقدت زوجها في الآونة الأخيرة للسرطان، ستحتاج لاستراحة قصيرة تسترد فيها أنفاسها من تلاحق الأحداث التي كانت بطلتها برغم أنفها.

فقد خرجت هذه السيدة، المناصرة لحزب العمال تقليديا، من بيتها لشراء بعض الخبز قرب منزلها في روشديل بمانشيستر الكبرى عندما صادفت رئيس الوزراء في إحدى جولاته الانتخابية، وألقت عليه بالسؤال الذي أثار حفيظته وأشعل فتيل برميل البارود ليتفجر حمما في وجهه وربما ثروة في حِجرها هي.. والدنيا حظوظ!

أما صحافة التابلويد الشعبية فحدث عنها ولا حرج. laquo;العمال يفقدون صوتاraquo;، في إشارة الى أن جيليان دافي مناصرة تقليديا للحزب، خرجت به laquo;ديلي ميلraquo; التي راحت تشمت بإعلانها: laquo;كارثة لبراون وهو يحيل شيطانا تلك الجدة البريئة التي تجرأت بسؤاله عن الهجرةraquo;. واكتفت laquo;ذي صنraquo; بالقول: laquo;ليست متعصبة وإنما هو البليدraquo;! وحتى laquo;ميرورraquo; الموالية تقليديا للعمال لم تجد عنوانا لها أكثر من تصريح لعقيلة رئيس الوزراء سارة براون عقيلة قالت فيه: laquo;غوردي آسف من القلبraquo;!

وثمة ملاحظات سريعة في هذه الزوبعة التي تعصف الآن بحزب العمال وزعيمه:

أولا، هذا درس لنا جميعا في أحد معاني الديمقراطية: أن الحاكم لا يملك الحق في أن يخطئ بحق الشعب، وإن كان العكس حق مكفول للشعب يمارسه بالانتخاب.. أن الحاكم الذي يخطى في حق الشعب يعتذر له ويطلب صفحه أو يدفع ثمن تجاهله له حياته السياسية نفسها.. وأن الحاكم مسؤو لمباشرة عما يقول بما في ذلك أصغر هفواته اللفظية.

ثانيا، درس في اللغة يفيد أن الشعوب المتقدمة تقيس كلمة بمعناها ومعيارها الحقيقيين. فكلمة laquo;متعصبraquo; وصف للشخص بأنه أعمى في ولائه ولا يقبل مجرد طرحه للنقاش.. أي أنه ذو عقل laquo;متحجرraquo;. وهي تهمة - شتيمة في ثقافة بنت حضارتها بفضل أنها نبذت التحجر.

ثالثا، أن وسائل الإعلام، خاصة المقروءة، سارعت لتسليط الضوء على أن سؤال جيليان دافي الذي laquo;أثار حفيظةraquo; براون كان يتعلق بسياسة حزب العمال إزاء مسألة الهجرة الحساسة التي كانت ستتصدر المواضيع الانتخابية لولا حالة الاقتصاد الخطيرة. فالحزب يقف متهما بأن جماح المهاجرين خرج تماما عن السيطرة تحديدا في سني العمال في السلطة.

بل أن الحزب واجه اتهامات بالغة الخطورة طرحتها الصحافة الشعبية في مطالع العام الحالي ومفادها أنه laquo;فتح بابا الهجرة على مصراعيه في محاولة متعمدة لتغيير البنية الاجتماعية للأمة تبعا لتركيبة عرقية جديدةraquo;. وقالت صحف التابلويد وقتها إنها تبني اتهامها هذا على هذه مسودة سرية صدرت عن مكتب مجلس الوزراء في العام 2000 وتظهر أن الحكومة العمالية تسعى لتكثيف laquo;مشاركة المهاجرين الى الحد الأقصى في الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي تسعى اليها الحكومةraquo;. ومضت تقول إن عدد الأجانب الذين سمح لهم بدخول البلاد في أعقاب ذلك laquo;ارتفع بنسبة 50 في المئة كنتيجة مباشرة لتوصيات المسودةraquo;.

ويذكر أن حزب العمال ظل يبرر مسألة الهجرة على أسس اقتصادية ناكرا أن يكون دافعه هو تغيير التركيبة العرقية للبلاد. لكن إبراز الصحف اليوم ضيق براون إزاء جيليان دافي بسبب سؤالها عن موقفه من المهاجرين يقول الكثير عن أن الصحافة الشعبية، التي يمكن أن تأتي بحكومة وتُسقط أخرى، ماضية في إدارة السكين في جرح براون عبر تذكير الناخبين بأحد جراحهم هم.

رابعا، أن براون تبرع بنفسه لإثبات نبوءة بعض كبار رموز العمال الذين طالبوا العام الماضي بتنحيه، مثل وزيره سابقا للداخلية تشارلز كلارك، وزيرته سابقا للجاليات هيزيل بليرز ووزراء آخرين، من أن براون laquo;سيؤدي بحزب العمال في 2010 الى مستوى الهزيمة التي مني بها حزب المحافظين في انتخابات 1997 تحت زعامة جوم ميجرraquo;. بل أن الأمر وصل بتشارلز كلارك للقول علنا إنه يشعر بـlaquo;الخجلraquo; لأنه برلماني ينتمي الى العمال تحت زعامة براون.

وأخيرا فقد يكون في حديث امرأة من الجمهور الذي سارعت وسائل الإعلام اليوم لاستقاء ردود فعله تلخيص للكارثة التي نزل اليها غوردون براون بقدميه وجر معه حزبه اليها. فقد استندت على اعتذاره الذي قال فيه إنه laquo;لم يفهمraquo; مقصد جيليان دافي، لتصدر عليه حكمها وهو: laquo;رجل لا يفهم الشعب يجب ألا يمثلهraquo;!