لا تزال الصحف العربية والاجنبية ترثي فقيد السعودية الكبير غازي القصيبي بعد نحو اسبوع من وفاته وكان اخرها واكثرها تاثيرا ما جاء على لسان سليمان السليم رفيق درب الراحل في الدراسة والوظيفة. وفي كلمات مؤثرة روى الوزير السابق كيف رأى غازي الموت أول مرة في quot;سانتا مونيكاquot;.

ملفات إيلاف:
في رحيل غازي القصيبي

خلال الأيام الفائتة امتلأت الصحف العربية بعشرات المقالات التي كتبت عن فقيد السعودية الكبير غازي القصيبي، الذي رحل بعد معركة مرهقة مع سرطان المعدة، لتفقد بلاده واحداً من ألمع أبنائها، هو الذي كان خليطاً إنسانياً لا يبدأ بوزير، ولا يمر بمثقف، ولا ينتهي بسفير، أو شاعر، يلتاع بالعروبة ويتتبع المتنبي ونزار حتى اللحظات الأخيرة.

وكان ألفت ما كتب وأقربه إلى محبي غازي مقالة وزير سابق، وهو سليمان السليم، ليس لشيء، بل لأنه كان عضواً في quot;شقة الحريةquot;، حينما كان يدرس مع غازي في القاهرة وكتب عنها روايتها الشهيرة التي كانت المصطفاة من بين رواياتها كلها، وتلك الرواية كانت بحق وثيقة تاريخية عن عذابات وأحلام جيل بأكمله، لم ير ثورة النفط إلا بعد سنوات من العرق والتعب.

وفي مقال نشرته الخضراء اللندنية، الشرق الأوسط، يوم الجمعة، تحدث السليم عن رفيق دربه في الدراسة والوظيفة، وقصة رؤيته الموت أول مرة في quot;سانتا مونيكاquot;، وحكى عن quot;شقة الحريةquot; في القاهرة، وزملاء تلك المرحلة الشابة مثل محمد كانو ومحمد صالح الشيخ، وخالد القريشي وآخرون مروا خفافاً على أديم تلك المرحلة أو ثقالا.

وقصة القصيبي مع الموت ملفتة، خصوصاً وأنه quot;يلعب بالربحquot; على حد تعبيره، بعد نجاته من الموت الأول في حادث سيارة على المحيط الهادي، حيث كان ذلك الموقف هو اللقاء المباشر الأول مع الزائر المزعج حسب ما جاء في مقال السليم الذي حمل عنوان quot;أعمارنا يالقصيبي عواريquot;.

بدأ الموت مع غازي منذ الطفولة حين فقد أمه وهو لا يكاد يتذكر منها حتى الطيف، ولم ينته بالشباب المتأخر الذي لم يفقد فيه غازي حياته ولا حيوته، حين كان يقفز فوق الأربعين والخمسين والستين والسبعين، برشاقة من تعود على العواصف، وقصف الرعود، منذ مطلع الحبر، والشعر، وسنوات العمل الأولى في الدولة.

وانتهت القصة برحيله بعد أن رأى أخوته وأحباءه يتساقطون في غيابة العمر ورثاهم واحداً واحداً حتى رثى نفسه عدة مرات كما ظهر واضحاً في قصيدته الأخيرة التي رثى فيها السبعين من العمر بعد أن جاوزها بعام واحد ولم يكمل ثمانينه التي كان يتوقعها ويحلم بها محبوه.

وبالعودة إلى السليم، كان الدكتور السليم وزيرا للتجارة السعودية منذ وزارة العاهل السعودي الراحل الملكخالد بن عبدالعزيز الأولى حتى التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم حيث عين في منصب آخر، وهو وزارة المالية لثلاثة شهر، ثم اعتذر عنه، وهى عادة لا يفعلها معظم المسؤولين السعوديين الذين ينهون مهامهم الوظيفية بعد فوات الأوان.

وعلاوة على أنه آخر أعمدة وزارة الدكاترة التي ظهرت على الساحة السياسية عام 1975، فهو مفكر اقتصادي له العديد من الرؤى الاقتصادية التي كانت محل إعجاب من قبل العديد من المحللين الاقتصاديين الذين يتابعون تحركات مسؤولي إقتصاد الدولة التي تحوي أكبر احتياطي من النفط في العالم.

الوزير السعودي السابق الدكتور السليم وزميله وصديقه غازي القصيبي ومحمد يماني مسؤولون تاريخيا عن أزمة سيولة الدكاترة وسيلانها، لأن كل طالب سعودي في السبعينيات الميلادية كان يتكالب على نيل الدكتوراه، ليكون مثلهم، حتى أصبح هذا اللقب العلمي لمن quot;هب ودب ودفعquot; على حد قول متابعين مخضرمين للحقبة السبعينية التي كانت تدشن لعهد صياغة البنية التحتية السعودية بشكل أكثر حداثة.

ونترككم مع نص المقالة:

أعمارنا يا القصيبي عواري
الشرق الأوسط اللندنية
سليمان السليم

عندما زرت غازي أول دخوله المستشفى التخصصي بمعية أخينا الأكبر عبد العزيز الخويطر، كان يشكو من انسداد في الجهاز الهضمي. وعندما هرعت إلى موقع laquo;مايو كلينيكraquo; في الشبكة العنكبوتية، تبين لي خطورة مثل هذه الانسدادات.. إلا أنني عللت نفسي بسلامة العينات التي أفرزتها معدته - كما عللت واردا زمزم - وافترضت أن نقله إلى الولايات المتحدة كان بإصرار من خادم الحرمين الشريفين للاطمئنان فقط، خاصة أنني مررت بالتجربة نفسها نتيجة التواء في الأمعاء صحح بعملية جراحية قبل ما يقرب من ثلاثة عقود. لذا أرسلت له رسالة نصية أقترح عليه فيها أن نلتقي في لندن في طريق عودته سليما معافى، مذكرا إياه ببيت شعر أرسله لي حين كان يقنعني بأن نستكمل زمالتنا في جامعة جنوب كاليفورنيا بدراسة الدكتوراه في لندن عام 1966، إلا أنني كنت مصرا على إكمالها في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن.
حيث قال حينها:
لو جئت لندن في مساء كريسمس
لوجدت لندن بهجة للأنفس
وعلى غير العادة لم تأت الإجابة إلا بعد عشرة أيام وكانت: laquo;سرطان المعدة.. والباقي على اللهraquo;.
لم تكن الصدمة سهلة، فقد زاملت غازي طالبا في الجامعة نفسها في القاهرة، ولوس أنجلس، وفي عضوية هيئة التدريس في قسم العلوم السياسية بجامعة الرياض (الملك سعود حاليا)، وفي مجلس الوزراء منذ عام 1975 حتى خروجه من الوزارة عام 1983. واستمر التواصل بيننا بعد ذلك إلى أن قابلته مقابلتي الأخيرة في البحرين، بعد عودته من الولايات المتحدة، حيث أخبرني أن من أكبر الصدمات في حياته كانت حين أخبره الأطباء حال خروجه من غرفة العمليات أمام حرمه وأبنائه بأن أورامه سرطانية. لم تكن تنقصه الشجاعة في مواجهة علته، ولكن كل همه كان الرأفة بأعزاءه المتحلقين حوله.
أجمل أشعار غازي هي تلك التي وردت في laquo;أشعار من جزائر اللؤلؤraquo; وlaquo;قطرات من ظمأraquo; وlaquo;معركة بلا رايةraquo; وهي التي قالها في زمن الشباب والتفاؤل والأمل وفي غياب الضغوط من مقارنته بالمشاهير من الشعراء أمثال نزار.
ومن أجمل أشعاره laquo;إخوانياتهraquo; التي تسري على لسانه من دون تكلف، ويجري بها قلمه بسرعة عجيبة، والتي أرجو أن يقيض لها من يجمعها وينقحها لتستكمل بها الإحاطة بتجربته الشعرية.
وأجمل قصائد غازي هي تلك التي يتقمص فيها شخصية موضوع القصيدة، والذوبان فيها، وحين يصبح لسان حالها.. ابحث عن قصيدته laquo;كريستيناraquo;.. وتمعن في قصيدته laquo;سعادraquo; حول وفاة سعاد حسني، والربط بين نهايتها والغروب، وبينها وبين عبد الحليم من خلال laquo;كامل الأوصافraquo;، وبين سواد الغروب وسواد العيون والضفيرة بين الغيوم.
وحين توجه غازي إلى الرواية أطلقه ذلك من قيد القصيدة بقوافيها وأوزانها. كان زملاؤه في السكن بالقاهرة محمد كانو ومحمد صالح الشيخ، وكان كاتب هذه السطور وخالد القريشي من رواد تلك الشقة. وقد قيل ما قيل من إلصاق شخصيات laquo;شقة الحريةraquo; بهذه الأسماء أو بعضها، والحقيقة أن شخصيات الرواية ما هي إلا شخصيات كاريكاتيرية مبالغ في صفاتها، وقد تكون كل واحدة منها خليطا من هذه الأسماء.
ثم توالت الروايات؛ ومنها laquo;العصفوريةraquo; التي عكست ذاكرته الفوتوغرافية، ومعلوماته الموسوعية، وحسن استثمار تلك المعلومات.
ولكنه لم يترك الشعر، وإنما بدأت تظهر في شعره آثار المعارك الأكاديمية والبيروقراطية؛ ففي كلية التجارة التي تولى عمادتها، ثار غبار المناوشات التي وصفها بصورة ساخرة الزميل الدكتور أسامة عبد الرحمن في كتيبه laquo;في إقليم أرخبيل القمرraquo;. كما كان عليه في وزارة الصناعة والكهرباء الدخول في معركة بيروقراطية للحصول على الغاز لمشاريع laquo;سابكraquo;، ثم مجابهة أزمة الكهرباء، مثلما كان على كاتب هذه السطور مجابهة الأزمات التموينية كوزير للتجارة.
وفي معاركه تلك لم يتوانَ عن تسخير قدراته البلاغية، والإقناعية، بما في ذلك تقبيل الرؤوس لتأمين الأراضي، والاعتمادات المالية، والاستثناء من القيود المالية، وفي كل ذلك كان نظيف اليد متجنبا للشبهات.
في عام 1964 كنا مجموعة من الطلبة تضم غازي وخالد القصيبي متوجهين بالسيارة في نزهة إلى مرتفعات سانتا مونيكا المطلة على المحيط الهادي. وفجأة فشلت كوابح السيارة وهي في منحدر حاد وقرب تقاطع وهي متجهة نحو المحيط وأيقنا أنها النهاية. لولا أنها توقفت بعد حشرها بين سور ونخلة، ولا أنسى وجه غازي حين التفت إلى الخلف وهو ممسك بنظارته السميكة وينطق الشهادتين.
بعد أن جلسنا على الرصيف ننتظر من ينقلنا، مر بنا أحد الأميركيين وسأل: من كان في هذه السيارة؟ أجبنا: نحن. فقال: أنتم؟! تهزأون بي؟! أما شركة التأمين فلم تصلح السيارة، بل عوضتنا عنها كاملة.
منذ ذلك الحين يا غازي، ونحن كما يقولون laquo;نلعب بالربحraquo;.
وعندما وصلت إلى مطار الرياض، مساء الخامس من رمضان، وجدت الرسائل النصية على جوالي تعزي في فقده.. ولم أتمكن من حضور الصلاة أو الجنازة..
وإن رحيلا واحدا حال بيننا
وفي الموت من بعد الرحيل رحيل
لم يكن غازي فريدا في ذكائه، وبلاغته، وذاكرته، وذائقته الأدبية، وحسن استثماره للمعلومة فقط؛ وإنما أضاف إلى ذلك الدأب، وحسن استثمار الوقت. أول بدئه الدراسة في جامعة جنوب كاليفورنيا اختار دروسا في التدريب على سرعة القراءة. وكان إذا دخل المكتبة ببنطاله الذي كان يتسع أو يضيق حسب وضعه مع laquo;الريجيمraquo; لا يخرج إلا بعد ساعات طوال. وعندما طلب منه التوجه إلى لندن سفيرا، كان من أهم طلباته أن لا يتوقع منه الاستقبال في المطار إلا في الحالات الخاصة. كما خصص يوم الجمعة للزوار السعوديين للصلاة وتناول الغداء في السفارة.
رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عنا خير الجزاء، وألهم أم سهيل ويارا وسهيل وفارس ونجاد الصبر والسلوان. والعزاء موصول لابن أخيه ورفيقنا جميعا معالي الأخ خالد القصيبي، ذلك الصابر المحتسب الذي فقد قبل غازي ثلاثة من إخوته، وأخته.

* وزير التجارة والمالية السعودي السابق