نشرت صحيفة laquo;تايمزraquo; البريطانية الجمعة مقالة رثاء في الدكتور غازي القصيبي جاء فيها ما يلي:

كان غازي القصيبي سياسيا سعوديا بارزا وأحيانا مثيرا للجدل على مدى أكثر من أربعة عقود. وهو سليل أسرة من التجار الميسورين، ومن المقربين محل الثقة لدى الملوك السعوديين بمن فيهم الملك عبد الله، عاهل البلاد حاليا.

وهو تكنوقراطي نادى بالإصلاحات السياسية والاقتصادية بتدرج يتواءم مع الأوضاع في بلاده. وعلى غير العادة لسياسي سعودي بارز مثله، كان أيضا كاتبا وشاعرا. والواقع أن وزارة الثقافة السعودية رفعت حظرا عن كتبه، التي ألّفها في الأغلب لانتقاد الأنظمة في المنطقة، قبل اسبوعين فقط من وفاته.

وقد جرته ملهماته الأدبية وولعه بإبداء رأيه الصريح الى خوضه وحل الصعاب مرتين في حياته المهنية الطويلة. فقد طرد من منصبه وزيرا للصحة في العام 1984 بعد نشره قصيدة هاجمت المميزات التي يتمتع بها بعض أفراد النخبة في بلاده. وبعد قرابة حوالى عقدين على هذا، عندما كان سفيرا لبلاده في لندن، أزيح من هذا المنصب بعد نشره قصيدة في مدح صبية فلسطينية فجّرت نفسها في القدس وقتلت اثنين من الإسرائيليين.

وتسببت القصيدة، الموجهة الى laquo;عروس العواليraquo;، في إثارة موجة عالية من الغضب وقتها. ومع ذلك فقد كان القصيبي نائياً عن الإسلام المتطرف. وعلى سبيل المثال، أدى وصفه أسامة بن لادن بأنه laquo;وحش بشريraquo; بعد أحداث 9/11، الى تخصيص هذا الأخير رسالة مسجلة للهجوم عليه شخصيا.

ولد غازي القصيبي في 3 مارس (اذار) 1940 في حفوف شمال المملكة العربية السعودية لأسرة مرموقة من أثرياء التجار. وتوفيت والدته عندما كان في الشهر التاسع من عمره فتلقى تربيته على يد جدته. وتلقى تعليمه المدرسي في البحرين التي كانت تخضع وقتها للإدارة البريطانية وتتفوق عمرانا على السعودية نفسها. وهنا فاز بمنحة لدراسة القانون في القاهرة متخرجا في الجامعة العام 1961 قبل حصوله على الشهادات العليا من أميركا وبريطانيا.

وقد بدأ حياته العامة في 1965 حين عمل مستشارا قانونيا لدى المسؤولين السعوديين الذين كانوا يتفاوضون مع نظرائهم المصريين على كيفية إنهاء النزاع الخطر حول اليمن. فقد كانت الرياض تدعم الملكيين بينما كانت القاهرة تساند الجمهوريين.

وسرعان ما وجد الاعتراف بمواهبه. فأوكلت اليه في ما بعد مهام أكبر شأنا في مسيرة التنمية السعودية الكبيرة التي أتاحتها الثروة النفطية الهائلة. فعُيّن في السبعينات مديرا لهيئة السكة الحديد التي كانت عاملا حاسما في تغيير صورة البنية التحتية للبلاد. ثم انتقل الى وزارة الصناعة والكهرباء حيث أدى دورا مهما في إرساء دعائم صناعة البتروكيماويات السعودية.

ولاحقا بعد إعفائه من وزارة الصحة وبقائه في الظل فترة ما، عين سفيرا لبلاده في البحرين وظل في منصبه هذا حتى العام 1992. وقد شهدت تلك الفترة اندلاع حرب الخليج الأولى. فكتب سلسلة من المقالات ردّ فيها على الحكومات العربية والجماعات الإسلامية التي انتقدت التحالف السعودي - الأميركي، متسائلا عن السبب الذي يدعو هذه الجهات للسكوت عن غزو صدام حسين الكويت؟

ومن البحرين، أرسل القصيبي في 1992 سفيرا لدى لندن حيث صار - بفضل ليبراليته ونظرته التقدمية وذوقه الأدبي - محل إعجاب الدوائر الدبلوماسية. وكانت تلك أيضا هي الفترة التي شهدت أوج نشاطاته الأدبية. فقد نشر في العام 1994 أشهر رواياته laquo;شقة الحريةraquo; التي تتناول حياة أربعة طلاب بحرينيين تركوا عوائلهم المحافظة للحياة الجامعية في فترة الستينات المهتاجة في القاهرة. وعموما فقد كان موضوع الاغتراب الثقافي والهوية العربية عمودا أساسيا لكتاباته الفكرية وأعماله القصصية والشعرية.

وأثناء عمله سفيرا في لندن أيضا، دخل القصيبي السباق الى منصب المدير العام لهيئة laquo;اليونيسكوraquo; في 1999. وكما هو متوقع من رجل مثله، فقد تهيأ لهذا السباق ببحثه في تاريخ المنظمة ومحاورته سائر مدرائها السابقين. لكنه خسر في آخر المطاف أمام الياباني كويشيرو ماتسورا. ولم يكن السبب الرئيس في هذا يتعلق به شخصيا وإنما بالخلفية الثقافية المحافظة لبلاده.

وفي العام 2004، أتت ولاية القصيبي بالسفارة الى ختام بسب قصيدة الصبية الانتحارية الفلسطينية. لكن الإحراج السعودي الناشئ عن هذا تبدد سريعا مع عودته الى الرياض حيث تولى فورا وزارة الماء والكهرباء. ومنذ ذلك الحين عمل وزيرا للعمل فجاهد من أجل خفض معدلات البطالة التي وصلت العام الماضي الى 10.5 في المائة من عدد سكان البلاد وهو 27 مليون نسمة. وأشرف على مشروع لإدخال المزيد من السعوديين في سوق العمالة عبر فرضه توظيف حصة معينة من هؤلاء في الشركات العاملة في البلاد والتي يزيد فيها عدد الأيدي العاملة الأجنبية كثيرا عن المحلية.

كما جاهد أيضا من أجل إتاحة مزيد من فرص العمل للسعوديات. وعلى طريقته المميزة، سعى لتشجيع النشء السعودي على الولوج في عالم المهن التي كانوا يديرون ظهورهم لها تاركين أمرها للأجانب. وكي يصبح قدوة حسنة في هذا الاتجاه، فقد عمل شخصيا laquo;غرسوناraquo; في مطعم للهامبيرغر في جدة.

توفي غازي القصيبي في 15 أغسطس (اب) بعد صراع طويل مع المرض، الذي قيل إنه سرطان القولون، وترك وراءه زوجته وأربعة أبناء وكان في السبعين من عمره.