باتت تكلفة الحرب الفرنسية للإطاحة بالعقيد معمر القذافي، باهظة سياسياً وعسكرياً، ويرجح محلل سياسي طرح فكرة الحل السياسي للأزمة الليبية لجملة أسباب منها الفترة الزمنية التي تستغرق رحيل القذافي، وسحب الولايات المتحدة طائراتها المقاتلة،واحتفاظالقذافي بقوات كافية للقتال.
باريس: أصبحت الحرب التي تقودها فرنسا لإسقاط الزعيم الليبي معمر القدافي تشكل عبئا مالياً و سياسياً على باريس. ولا يصب عامل الزمن في صالح سيد قصر الإليزي، الذي يحاول من خلال دبلوماسيته إقناع الأطراف الأوروبية بجدوى التدخل العسكري لحسم الاقتتال الليبي لصالح الديمقراطية أولاً وأخيراً في هذا البلد.
غير أن هذه النغمة التي تتحدث بها باريس، لا تطرب نظراءها الأوروبيين، وبالأخص ألمانيا، شريكتها الأولى التي تشكل إلى جانبها قاطرة الاتحاد الأوروبي. وإن كان الطرفان أجمعا في لقاء الدوحة الأخير على هدف واحد يهمهما معاَ هو إرساء quot;السلام و الديمقراطيةquot;، إلا أنهما quot;يختلفان في سبل الوصول إليهquot;.
وأدى وجود فرنسا لوحدها على الجبهة مدعمة ببريطانيا إلى تزعزع قناعتها بالحل العسكري، بل إنها أجّلت الحديث عن رحيلٍ مبكرٍ للقدافي، إلى حدود الجمعة، في ورقة مشتركة لزعماء الدول الثلاث (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة)، أكدوا فيها ضرورة رحيل معمر القدافي عن السلطة، دون أن تبدي واشنطن نيتها في العودة إلى الأجواء الليبية إلى جانب فرنسا، للرفع من حدة الضربات على كتائب القدافي.
وظهرت على الساحة اختلافات في تقدير الطريقة التي ينبغي التدخل بها لهدّ القدافي عسكرياً وبالتالي إضعافه بغرض فتح الطريق أمام الثوار للتقدم. إلا أن واشنطن كان لها رأي آخر، واعتبرت أن عملا من هذا النوع لا يمكن أن يتم إلا بمرافقة الضربات الجوية لزحف بريّ للقوات الدولية. وهذا ما تريد باريس أن تتفاداه تجنباً لخسائر بشرية في صفوف قواتها، ولانتقادات الداخل.
البحث عن حل سياسي...المهمة الصعبة
توجهت البلدان المحسوبة على مجموعة الاتصال بموجب لقاء الدوحة إلى استثمار جهودها في الوصول إلى حل سياسي لجر القدافي إلى طاولة التفاوض، دون أن يعني ذلك وقف الضربات الجوية. كما أنها أحضرت معها موسى كوسا أحد أعمدة نظام القدافي سابقا، ورفعت التجميد عن أرصدته لتشجيع المحيط المقرب من الزعيم الليبي للإنسلاخ عن قائمة معاونيه. إلا أن ذلك، بحسب مراقبين يبدو صعب التحقيق نظراً للرقابة المفروضة على رموز النظام في طرابلس.
وبحث باريس عن حل سياسي يرجعه الباحث والمحلل السياسي فيصل جلول quot;لعدة أسباب أولها أنها كانت تعتقد أن الحملة الجوية ستطيح بنظام القذافي خلال أسبوع، وهذا الاعتقاد مبني على تقديرات المعارضة الليبية وبعض الخبراء الفرنسيين الذين استندوا إلى ما جرى في تشاد عام 1987 حيث كانت الطلعات الجوية الفرنسية كافية لاستعادة وادي دوم ولانهيار قوات القدافي وأسرها مع قائدها خليفة حفتر الذي يعود اليوم إلى قتال القذافي مع المعارضة الليبية...quot;
ويضيف جلول quot;ثاني الأسباب أن الولايات المتحدة الأميركية سحبت طائراتها المقاتلة التي تصيد الدبابات وصار على فرنسا وبريطانيا أن تتحمل بشكل أساسي العبء العسكري. وثالثها: طول أمد الحملة الجوية يبين أن حسم الحرب لا يتم إلا بقوات عسكرية على الأرض، وفرنسا غير قادرة مع بريطانيا على تحمل هذا العبء...quot;
المحلل السياسي فيصل جلول |
كما يشير المحلل السياسي اللبناني إلى أن quot;قرار مجلس الأمن لاينص على تدخل بري. أما رابع الأسباب المفترضة هو أن القذافي ما زال يحتفظ بقوات كافية للقتال والرد على الضربات ولديه مؤيدون يخشون على مصالحهم من الانهيار فضلاً عن قبيلته وأقسام من قبائل أخرى، بالمقابل لا تبدو القوات المعارضة في وضعية قتالية تبشر بحسم المعركة مع نظام القذافي سريعا، ما يعني أن الحرب قد تطول...quot;
وفي الاتجاه نفسه، يقول جلول،quot;ليس من مصلحة ساركوزي الذي يريد دخول الانتخابات الرئاسية القادمة من دون حرب استنزاف موارد وقدرات فرنسا المحدودة. لهذه الأسباب ربما تفكر باريس بالحل السياسي للأزمة الليبية. وهذا أيضاً رأي الامين العام للحلف الاطلسي اندريس راسموسن، الذي قال في 11 ابريل الجاري أن لا حل عسكريا للأزمة الليبية...quot;
وزاد قائلا :quot;عندما يقول قائد قوات الأطلسي التي تتولى الحملة الجوية العسكرية بالحل السياسي، فإنه لا يرتجل بل يرجح أنه تشاور مع قادة الدول الأطلسية وخرج بهذه النتيجة...quot;، بحسب رؤيته للأشياء.
ما بعد لقاء الدوحة
لا يرى فيصل جلول أن نتائج لقاء الدوحة quot;قادرة على حلحلة الأزمة...quot;، متسائلا quot;وكيف تحلحلها وهم مختلفون في ما بينهم؟... فالمجلس الوطني الانتقالي يرى أن الحل السياسي يبدأ مع رحيل القذافي وأولاده، فيما أعضاء التحالف الغربيون يعتقدون أن رحيله يكون مبرمجاً بعد حين، ويرون أيضاً أن قضية أولاد القذافي يحلها الشعب الليبي. ويختلف أعضاء التحالف حول دخول قوات أجنبية لحماية مواكب المساعدات الإنسانية...quot;
وفي السياق نفسه يتابع quot;العديد من الدول الغربية ترى أن المساعدات تصل فقط إلى الأماكن التي لايحتاج الدخول إليها إلى قوات مسلحة. وإذا أضفنا قصور الحملة الجوية في تحطيم قوات القذافي، نصل إلى نتيجة مفادها أن مجموعة الدوحة تتحدث بلغة متشددة لا تتناسب مع فعاليتها العسكرية على الأرض، ولا تتناسب أيضا مع الخلافات القائمة بين أطرافها حول كيفية معالجة الأزمة...quot;
وطرح الحل السياسي لإنهاء الأزمة الليبية، فسر من قبل فيصل جلول بكونه quot;فشلا سياسيا لباريس، لأنه يتناقض تماماً مع الهجمة الحاسمة التي استخدمها ألان جوبيه وزير الخارجية وساركوزي نفسه اللذين وجها ما يشبه الإنذار القصير الأجل للقذافي بأن يغادر ليبيا ويتخلى عن السلطة مع عائلته...quot;
وأضاف أنه ربما على الأطلسي أن يكثف الضربات مع خطر إصابة المزيد من المدنيين وهنا مشكلة عويصة أخرى، لأن هذا الحل لا ينطوي على أية ضمانات بأن يستجيب القذافي لشروط الدوحة...والأسوأ من ذلك كله أنه لا يلوح في الأفق خيارات كثيرة إذا ما فشل الحل السياسي...quot;، والكابوس الفعلي، بالنسبة إلى الإعلامي والكاتب اللبناني quot;يكمن في احتمال استعادة القذافي زمام المبادرة، وحتى لا يستعيدها تماماquot;.
حرب ارتجالية...
ويعيب فيصل جلول على هذه الحرب أنها quot;بدأت بقدر كبير من الارتجال والخفة، ومن بين مظاهر الخفة أن أحدا لم يطرح هذا السؤال الجوهري...من يتولى الحكم في ليبيا بعد القذافي؟ وكيف يكون هذا الحكم؟quot;
وquot;الإجابة عن هذا السؤالquot;، يقول جلول، quot;تتيح تشكيل مروحة واسعة من القوى كل منها يعرف ما سيكون عليه الحال في ليبيا بعد النظام السابق وكل يسعى إلى تحديد موقعه في الوضع الجديد...quot;
ليخلص إلى القول إنه quot;في الواقع لم يضع أحد باريس في موقف صعب، هي التي وضعت الجميع أمام المأزق الليبي بسبب تسرع ساركوزي واستدراجه الجميع إلى هذه الحرب بلا عدة سياسية، لذا فإن فرنسا ستتحمل نتائج هذه الحرب أكثر من غيرها في حالتي النصر والهزيمة معاquot;.
التكلفة السياسية والمالية للحرب الفرنسية على ليبيا
لا تكلف هذه الحرب الحكومة الفرنسية سياسيا فقط بل ماليا كذلك، و هو ما وقفت عنده يومية فرانس سوار بالأرقام، التي نشرت أن حاملات الطائرات شارل دغول لوحدها تكلف باريس مليون يورو يوميا، و هي تحمل على ظهرها 30 آلية عسكرية من ضمنها عشر طائرات حربية من نوع رفال.
إجمالا تقدر الصحيفة التكاليف اليومية للعمليات العسكرية الفرنسية في ليبيا بمليون و نصف يورو، دون احتساب تكاليف القذيفات التي استعملت.
ويقول فيصل جلول عن هذه الحرب إنها quot;مكلفة للغاية بالنسبة إلى فرنسا ويعتقد خبراء عسكريون أن كلفة العمليات العسكرية الفرنسية في الخارج منذ العام 2000 وحتى اللحظة تعادل كلفة بناء حاملة طائرات من طراز الحاملة شارل ديغول...quot;
ويعتبر في الوقت نفسه أن quot;فرنسا مازالت قادرة على تحمل هذه الكلفة، فهي بلد غني ولم تصل نفقاتها الحربية إلى حد يفوق التحمل، والراجح أن نجاح الحملة التي خاضها ساركوزي في ساحل العاج، ربما يبرر تلك النفقات، بيد أن فشل الحملة الليبية قد يستدرج انتقادات قاسية للرئيس الفرنسي في معسكره، قبل معسكر خصومهquot;، بحسب تفسيره.
لكن هذا النوع من الحروب يستثمر كذلك في الدعاية لأسلحة جديدة أو تلك التي لم تنل نصيبها من البيع، كما حصل للطائرات الحربية رافال، كما أن فرنسا تستعرض خلالها تكنولوجيتها الحربية، حيث استعملت لأول مرة صواريخ quot;سكالبquot;، التي يقدف بها على مسافة تقدر بحوالى 400 كلم، ثم قنابل quot;أدوإس إمquot; التي سبق استعمالها في أفغانستان و تلقى عن بعد، على مسافة 50 كلم.
هذه الدعاية للأسلحة الفرنسية أتت في وقت يسبق معرض البورجي بشهرين، حيث تعرض آخر التكنولوجيا في ميدان الأسلحة، ما دعا مراقبين إلى اعتبار توقيت الحرب مناسبا بالنسبة لباريس للتعريف بالجيل الأخير من أسلحتها قصد تسويقها في هذا المعرض، ما يعني خلق فرص شغل جديدة.
و علق المحلل السياسي فيصل جلول على واقع من هذا القبيل بالقول:quot;ما يؤسف له أن الحروب تستخدم أيضا لاختبار فعالية أسلحة معينة ولتسويقها، وهذا يصح على الحرب الليبية وعلى الفرنسيين كما يصح على حروب أخرى وعلى غير الفرنسيين...quot;
فرنسا تبحث عن دور ريادي على الساحة الدولية
وجود فرنسا على أكثر من جبهة يعطي الانطباع لدى العديد من المراقبين أن باريس تبحث جادة عن دور ريادي على الساحة الدولية، حتى لو كان ذلك يشكل حساسية خاصة لنظرائها الأوروبيين، لاسيما ألمانيا، وهذه استجابة لمطمح الطبقة السياسية الحاكمة، و على رأسها ساركوزي.
الكاتب والإعلامي فيصل جلول، يضيف إلى الجبهات الثلاث التي تحارب عليها فرنسا أي أفغانستان، ليبيا و أخيرا ساحل العاجل quot;القراصنة الصوماليين في بحر العرب وباب المندب والمحيط الهندي، وذلك انطلاقا من القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي...quot;
quot;ويتوجب، بحسب جلول، quot;إضافة المشاركة الفرنسية في القوات الدولية على جبهات ساخنة كما هي الحال في جنوب لبنان، ولا ننسى كوسوفو والعديد من المشاركات العسكرية في إفريقيا.وهناك من يعتقد أن فرنسا لم تشارك في كل هذه الحروب دفعة واحدة إلا في عهد نابليون بونابرت مع فارق كبير في الرهانات وحجم المشاركة والمبادرةquot;، تبعا لتحليله.
وبونبارت، يقول المحلل السياسي، quot;غير محبوب في أوروبا...إلى درجة أن الأوروبيين يكرهون أن تسير فرنسا ولو من بعيد على الرسم البونابرتي...والتحفظ لا يقتصر على ألمانيا فايطاليا واسبانيا ومالطا لا تحبذ هي الأخرى بونابرتية فرنسية جديدة، وإن كنت أظن أن حكومة فرنسية من لون آخر يمكنها أن تخفف كثيرا من هذا الاندفاع العسكريتاريquot;.
ساركوزي و شعبيته
يقر ملاحظون أن نيكولا ساركوزي يعول كثيرا على تحركاته الخارجية لتنشيط شعبيته داخليا، و التي تهاوت إلى حدود غير مسبوقة، و هو ما يؤكده فيصل جلول، لأن quot;هامش المناورة ضاق أمامه في الداخل، و بالتالي يمكنه أن يربح أكثر في الخارج، خصوصا أن بعض معاركه الداخلية تهدد وحدة حزبه شأن الجدل حول العلمانية والإسلام الذي رفض رئيس الوزراء فرانسوا فيون الخوض فيهquot;.
ويوضح أنه quot;في الخارج يمكن لساركوزي أن يربح أكثر، وقد ربح معركة ساحل العاج و هو يراهن اليوم على الحرب الليبية، فإن نجح فقد يعوض الجزء الأكبر من خسارته الداخلية خصوصا أن ليبيا تفتح أمامه فرصا استثمارية خرافية في إعادة الإعمار وتطوير حقول النفط والطاقة النووية المدنية...quot;
أكثر من ذلك، فالكاتب و الإعلامي اللبناني المختص في القضايا العربية، يربط مصير ساركوزي السياسي بنتيجة quot;حروبه الخارجية...quot;، التي بإمكانها، إن كانت إيجابية، أن توفر له quot;حظوظا في الفوز بولاية جديدة في الإليزيه...quot;، بحسب رأيه.
التعليقات