يتجمع عشرات الشباب في بغداد لساعات ليست متأخرة في الليل بسبب حظر التجول الذي يمتد إلى الساعة الواحدة، لكنهم يتمنون لو أنهم امتلكوا كل ساعاته، لأجل التمتع بالصحبة والندامة والجلسات المفتوحة التي افتقدها العراقيون لزمن طويل.


وسيم باسم من بغداد: لعل وصف الاعلامي والمثقف العراقي أحمد المظفر لليل بغداد، تعبير صادق عما يحسه المثقف والمواطن العادي على حد سواء. يقول المظفر في حواره مع إيلاف: لا نشعر بليل بغداد لأننا نغرق في زاويتنا في نادي الأدباء، نتبادل الصحف ونقرأ لبعضنا ولا يطول ليلنا الخارج عن نطاق ليل بغداد سوى ثلاث ساعات لنغادر بعد العاشرة والنصف فلا نرى سوى عاصمة قاحلة إلا من العسس ورجال السيطرات الذين يوقفوننا ويسألوننا أسئلة غبية كالعادة من أين أتيتم وإلى أين أنتم ذاهبون... فنقول لهم نحن شعراء وهنا تبدأ المساءلة الأكثر سخرية إقرأوا لنا quot;دارميquot;، هذا هو ليل بغداد في ظل الحس الأمني لـ(سيطراتنا).

وفي وقت يتّسم بالحذر، فإن التحدي واضح في عيون مئات الشباب من الجنسين الذين يحاولون عيش ليل جميل لا تعكره أعمال العنف أو شروط الحظر. ومنذ العام 2003 تشهد العاصمة بغداد ومدن عراقية، حظر تجوال تفاوتت توقيتاته رغم التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية.

ورغم ان الحظر بمعناه الحقيقي بدأ يتآكل، الا انه ما زال جاثما على صدر بغداد. ليل حذر وفي المساءات الجميلة التي بدأت تلقي بظلالها على ليل بغداد الحذر، يتعمد البعض المجازفة في التعبير عن فرحه بالرقص وتجمعات الفرفشة وترديد الأغاني العراقية.

ففي زاوية من شارع quot;ابو نؤاسquot;، لا يتلفت محمد حسين من ورائه وهو يقضي ساعتين من كل اسبوع في كازينو على نهر دجلة، بصحبة زملائه وزميلاته في الجامعة. يقول احمد : الوقت يوحي بالأمان، ولم يعد هناك من يفرض شروطه علينا في عدم التجمع.

وتتخلل جلسة محمد مع أصدقائه أحاديث الدراسة والمشاريع المستقبلية. وعلى المائدة التي نصبوها تلمح المرطبات وعلب الكولا والكرزات، ما يوحي بترف يتوفر، ووسائل راحة بدأت تأخذ طريقها. لكن احمد يشير الى ضرورة العودة سريعا الى البيت قبل الساعة التاسعة بسبب زحمة المواصلات، ومحاذير التأخر في الليل. ويلمح صديقه الى ان الخطر الاكبر اليوم هو العبوات التي لا تكتشف بسهولة و الكواتم.

لكن العائلات العراقية تحرص على العودة المبكرة الى البيت بعدما تكون قضت قسطا من الوقت بين المتنزهات لاسيما في شارع (أبو نؤاس) وكورنيش (الاعظمية )وحديقة (الزوراء). لكن هذه الأماكن لا تخلو من الشباب المراهق أو quot;المكبسلينquot; من متعاطي حبوب الهلوسة والمخدرات.

وتقول شيماء حسين إن هؤلاء خطرون مثل العبوات الناسفة. ويحاول البعض منهم التحرش ومغازلة البنات. لكن الزائر الطارئ الى بغداد ربما لا يلمح مظاهر لليل صاخب، في مجتمع بدا محافظا اكثر من أي وقت مضى.

شهادة مثقف مغترب

يصف الكاتب العراقي المغترب هادي الحسيني لايلاف زيارته الى بغداد : قبل أشهر قليلة زرت مدينتي بغداد وجدتها اشبه بمدينة كئيبة، حزينة، ثكلى، تنفث غبار سنوات الحروب والدمار من كل ركنٍ من اركان أزقتها، اما ليلها فهو اشبه بالافحم الشاحب الجالب للخراب، وكأن ليل بغداد عبارة عن رثاء متواصل لمدينة كانت على مر العصور تشع وتنير بجمالها ودجلتها وعلومها.

ويتابع الحسيني: هذا الليل وظلامه قد جلبته محاصصة القوى السياسية التي لم تتخلص بعد من تقاسم الغنائم والمناصب طائفيا والتي ذهبت بالبلاد ككل الى مستنقع مظلم يصعب الخروج منه. ويضيف الحسيني.. بغداد في الليل عبارة عن مدينة اشباح يتنقل فيها خلسة القتلى والمجرمون والسراق، وتستصرخ تلك المدينة التاريخية الكبيرة بضمائر الشرفاء ليعيدوا لها بهجتها وتألقها ونورها ولا احد يجيب !.

عدم الثقة

ويبدو أن ثمة مناخًا من عدم الثقة والعداء بين جماعات ترغب في ليل أكثر جرأة فيه ملامح غربية، وآخرين يحاولون الابقاء على مظاهره المحافظة المتمثلة في ارتداء الملابس الطويلة والحجاب ومنع اختلاط الجنسين داخل الجامعات والمنتزهات.

لكن سكان بغداد يتألمون لمدينتهم التي عانت بشدة منذ العام 2003 والى الآن. وبينما يحرص متشددون على ان لا تتحول بغداد الى (ملهى ليلي) بحسب وصفهم، فان شبابا يرى ان هناك مبالغة في الأمر.
وتختلف الاراء حول الموضوع، فبينما يؤكد احمد حسين وهو صاحب كازينو ان هناك العشرات من الشباب من الجنسين يتراقصون على أنغام موسيقى في زيونة ونادي الصيد، فان جميل الجبوري وهو منظم حفلات يرى ان هناك مبالغة، فثمة فعاليات اجتماعية جديرة بالاحترام هناك، وان الرقص لا يعني الدعارة في كل الأحوال.

ويرى جميل أن نوادي بغداد الليلة حريصة على عدم الإخلال بالأعراف الاجتماعية. ويقول: غالبا ما تتضمن العروض اغاني عراقية وفقرات راقصة تتضمن صعود فتاة على خشبة المسرح في زيّ للرقص الشرقي. ورغم ان هذا يعد أمرا استثنائيا في بلد يرتدي فيه كثير من النساء الحجاب، الا انه محصور في اماكن محددة في العاصمة.

ليل بغداد قبلة الزائرين في الخمسينات

وكان ليل بغداد محج الزائرين وباحثي المتعة والراحة في الخمسينات و الستينات، بل كان يضاهي ليالي بيروت والقاهرة في ذلك الوقت لما يحتويه من وسائل راحة وترف، وما يتخلله من انفتاح مجتمعي على العصر، لكن هذا المجتمع اصبح محافظا اجتماعيا، وطغت عليها مظاهر التدين من أواخر السبعينات.

وازدادت الصبغة المحافظة بصور متسارعة بعد العام 2003 ولاسيما ان الفعاليات الدينية والاجتماعية والسياسية سلحت نفسها بالأجندة الطائفية.

ويطرب (كريم حسين) مستمعيه في حوالى أربعة نوادٍ ليلية على مدار الأسبوع. ويقدر حسين عدد النوادي الليلية في بغداد بحوالى ثلاثين ناديا، بعضها يعمل بشكل سري في بيوت مخصصة لهذا الغرض. ويصف كريم الليالي الحمراء في بغداد بأنها عبارة عن راقصات مثيرات ومشروبات كحولية. لكنه يؤكد ان هذا ليس السمة العامة لبغداد فكل ما يحدث فعاليات شبه سرية.

أوكار أنيقة

ويصف الشاعر والناقد (محمد غازي الاخرس) في حديثه ل(ايلاف) بان quot;الليل في بغداد هو قتلة ينتظرون الفجر لبدء أعمالهم، وفاسدون يتحاسبون في أوكار أنيقة ويتقاسمون أرباحهمquot;.

ويتابع: quot;الليل في بغداد هو أحلام تصارع لتبقى حية بينما الساسة يمدون لها حبالا لشنقها..هذا هو الليل في بغداد لكنه مع هذا يسمع لأغنية تصدح وقصيدة تقرأ وفيلم يشاهد وكتاب يتقلب معك مثل حبيبة حسناءquot;.. ويتابع الأخرس: quot;هذا هو الليل في بغداد quot;.. لكن اين يقضي المثقف ليله ؟. يجيب الأخرس.. quot;في البيوت في غالب الأحيانquot;.

نوادي بغداد وكازينواتها

لكن (ستار الخفاجي) وهو صيدلاني يتناول الجعة (البيرة) في quot;ركن البنفسجquot; في العطلة من كل اسبوع، يشعر بالقلق من مضايقات لا يستطيع ان يصفها، لكنها تعبر عن اتجاه حكومي او مجتمعي على اقل تقدير. ويدافع (ازاد حنا) عن عمله الليلي في نوادي بغداد وكازينوهاهات ويقول انها توفر فرص العمل للناس.

ويضيف: مثلما حقبة النظام السابق.. الرفاهية للساسة والبطانة الحاكمة. ويؤكد ان المواطن البسيط يعيش ليله في بيته وجل زبائن الليالي الحمراء من المنتفعين والسياسيين ورجال الأعمال وأصحاب الصفقات. ويقول بحسرة: quot;أفهم عليك كعراقي، ولن يفهمك الا العراقيون، تحقيقك عن ليل بغداد سيكون صريحا، فنحن الوحيدون الذين نعرف ليالي بغدادquot;.

احتكار الليل

لكن الذي ينظر الى شوارع العاصمة بغداد يراها شبه فارغة في الليل، ويقول ازاد ان اصحاب السلطة هم الذين احتكروا هذا الليل. وبسبب الحوادث الأمنية وأزمة الكهرباء يغيب دور المسارح والمنتديات الثقافية، وتحولت الأمسيات الاجتماعية والثقافية الى quot;اصبوحاتquot;.

ويعتبر الشاعر عزام الجريان هذا بمثابة سرقة لمساء العراقيين، ويعتبر ما يحدث إقامة إجبارية في البيوت. ولا يتردد أصحاب النفوذ والذين يمتلكون (حمايات) من التجول بحرية، وما زال المواطن يرى ان ثمة فارقًا بينه وبين اولئك، ولن تعود الامور طبيعية الا بزوال هذا الشعور السلبي الذي يكنه المواطن للمسؤول.

بغداد كانت أكثر أمناَ

وحظر الحياة الليلية ليس جديدا على العراقيين، فمنذ زمن النظام السابق تحجم ليل بغداد، واصبح مراقبا من قبل رجال الحزب والأمن، وفي ظل (الحملة الايمانية) في تسعينات القرن الماضي حيث انحسرت مظاهر الحياة الليلية.

لكن محمد سعيد وهو صاحب كازينو يرى ان الحياة في بغداد كانت اكثر أمنا في ظل نظام البعث. وقال.. رجال الامن في ذلك الوقت لا يتدخلون في الحياة الشخصية للمواطنين انهم يحفظون الامن، فحسب، وقد نجحوا في ذلك.

وأضاف كان ليل بغداد يجمع الزاهد ومدمن الكحول، على حد سواء. ويضيف كنا نسهر الى وقت متأخر في الليل، ولم يحدث ما يعكر صفونا.. افعل ما تشاء لكن لا تعكر صفو الأمن. ويتابع.. لكن اليوم تعجز الدول عن حماية اماكن الترفيه، حيث تستهدف بين وقت وآخر من قبل الجماعات المسلحة.

وتبدي الأسر العراقية امتعاضا من تقييد حركتها، بعد انتشار المتنزهات وأماكن الراحة والمطاعم الفاخرة وانحسار سطوة المتشددين، لكن رجل الدين الشيخ أمين الحلي يحرص على إبعاد المظاهر الطارئة على ليل بغداد اذا ما تقرر رفع الحظر الليلي. ويقول إنه من غير المسموح تجاوز ثقافة المجتمع الإسلامية.

ويعاني سكان بغداد من وطأة حظر التجوال الذي يبدأ من الساعة 12 ليلاً وحتى الخامسة فجرا، وتم البدء بفرضه في عام 2004 بعد أن تزايدت أعمال العنف. ويعد الفنانون العراقيون من اشد المنتقدين لحظر التجوال، وبحسب ليث الرماحي الطالب في معهد الفنون الجميلة فان الناس تريد صالات للسينما والمسرح، وهم بحاجة الى الترفيه بعدما ملوا الحروب والدماء. ويطالب الرماحي بعدم فرض أجندة الاحزاب على الشعب، لاسيما ما يتعلق بالتحليل والتحريم والعقائد.

شهادة مواطن

ويقول الطالب الجامعي مصطفى الكاظمي الساكن في مدينة الكاظمية في حواره مع quot;ايلافquot; ان وقته لا يسمح له بقضاء سهرات ليلية اضافة الى حرصه الى عدم الاختلاط بشباب مدمن على الكحول يتجمع في زوايا شوارع المدن، بعدما يكون قد تجرع ما بحوزته من كحول ومشروبات مسكرة في البساتين والحدائق المجاورة.

ويصف مصطفى ليل الكاظمية بأنه هادئ بحكم الطبيعية الدينية للمدينة. لكنه يؤكد ان البعض يقصد نادي الصيد ونادي الفروسية للمتعة. كما يقضي البعض مساءاته في (ابو نؤاس) و (زيونة).

وبحسب مصطفى فان مدينة الكاظمية تفتقد الى الكازينوهات الخاصة بالعوائل وتقتصر خدماتها على الشباب واشهرها كازينو (هافانا). لكن هذه الكازينوهات تنهي فعالياتها في وقت مبكر من الليل لدواعٍ أمنية. و اكثر ما يراود سكان بغداد اليوم حوادث قتل حيث يغتال مسلحون مسؤولين وأثرياء بالمسدس كاتم الصوت.