هيمن التمرد على الجنود الإسرائيليين في الجبهة المصرية إبان حرب الاستنزاف، وتفاقمت تلك الظاهرة في أعقاب رفض غولدا مائير مباردة جمال عبد الناصر، الرامية إلى السلام مع إسرائيل بوساطة رئيس الكونغرس الصهيوني العالمي، غير أن غولدا احتوت الموقف بعد لقاء عقدته مع بعض الوزراء وقادة الأركان.


تل أبيب: كشفت وثائق عبرية النقاب عن حالة احتقان وتمرد بين صفوف الجيش الإسرائيلي، إبان حرب الاستنزاف، التي خاضها الجيش المصري ضد نظيره الإسرائيلي على ضفتي قناة السويس، بعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967 وحتى 7 آب/أغسطس 1970، بعد قبول القاهرة ما يعرف بـ quot;مبادرة روجرزquot;، الرامية إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين.

تمرد في صفوف الجيش

وتشير معطيات الوثائق العبرية المنشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، إلى أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينئذ غولدا مائير، علمت بحالة التمرد التي سادت صفوف الجيش الإسرائيلي الموجود في شبه جزيرة سيناء، خاصة في أعقاب عمليات القصف اليومية التي قام بها الجيش المصري على طول امتداد جبهة القتال في الضفة الشرقية للقناة، وبات السؤال الذي يفرض نفسه أمام هؤلاء الجنود هو، لماذا القتال؟، ولماذا ترفض رئيسة الوزراء مبدأ التصالح، وتعارض إرساء السلام بين إسرائيل والفلسطينيين؟.

زاد من حالة الجنود الإسرائيليين المتردية، اعتراض مائير على مبادرة سلمية، تقدم بها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لإحراز السلام بين القاهرة وتل أبيب، وبدأت المبادرة التي يدور الحديث عنها بحسب وثائق الصحيفة العبرية، عندما بعث جمال عبد الناصر برسالة في شهر نيسان/ ابريل عام 1970 الى quot;ناحوم غولدمانquot; رئيس الكونغرس الصهيوني العالمي، دعاه فيها الى زيارة القاهرة للتفاوض حول امكانية اقناع القيادة الاسرائيلية بالتوقيع على اتفاق سلام مع مصر.

في اعقاب تلقيه الرسالة غير المتوقعة، توجّه غودلمان مهرولاً الى رئيسة الوزراء الاسرائيلية، وعرض عليها فحوى ما تلقاه من عبد الناصر، إلا ان غولدا تعاملت مع الرسالة وحاملها بسخرية بالغة، وقالت عبارتها الشهيرة بحسب الموسوعة العبرية على شبكة الانترنت: quot;إذا كان غولدمان وعبد الناصر يرغبان في تحقيق سلام، فلا يفرضانه على إسرائيل، وإنما سيكون السلام مقتصراً عليهما فقطquot;.

أمام تلك العبارة، أيقن جنود الجيش الاسرائيلي، خاصة أولئك الموجودين على طول الجبهة القتالية مع مصر في شبه جزيرة سيناء، ان رئيسة وزراء اسرائيل لا ترغب في احراز اي تقدم سلمي مع مصر، الامر الذي ترك لديهم علامات استفهام كبيرة، سيما أنهم سئموا من الحرب والقتال.

ولعل انطباع هؤلاء الجنود انتقل بسرعة فائقة الى طلبة إحدى المدارس الثانوية في تل ابيب، وهي الجماعة، التي اطلقت على نفسها اسم quot;جماعة الشبيبةquot;، عندما ارسلت رسالة الى رئيسة الوزراء الاسرائيلية، طالبتها فيها بضرورة التعاطي مع طلب جمال عبد الناصر، الرامي الى توقيع اتفاق سلام مع اسرائيل بحسب معلومات الصحيفة العبرية.

ذعر وضغوط نفسية عصيبة
تزامناً مع هذه التطورات، اجرت شعبة القوى البشرية في الجيش الاسرائيلي عام 1970 استطلاعاً للرأي بين جنود الجيش الاسرائيلي على الجبهة المصرية، وتبين من خلال نتائجة الموثقة في منشورات يديعوت احرونوت، إصابة الجنود الاسرائيليين بحالة من الذعر والضغوط النفسية العصيبة، جراء عمليات القصف اليومية، التي يقوم بها الجيش المصري ضد اسرائيل في سيناء، كما اشارت نتائج الاستطلاع الى عجز الجنود عن الوقوف على اسباب الحرب والقتال التي تصرّ عليها القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية ضد المصريين.

الى ذلك، دارت داخل الدوائر الجماهيرية في اسرائيل حلقات من الجدل والنقاش، تعالت خلالها موجات الاعتراض على سياسة غولدا مائير، الرافضة لتمكين رئيس الكونغرس الصهيوني حينئذ quot;ناحوم غولدمانquot; من قبول دعوة عبد الناصر إلى عقد لقاء بينهما في القاهرة.

على خلفية هذه الاجواء الدراماتيكية داخل اسرائيل، اعربت غولدا عن قلقها البالغ مع الانعكاسات التي قدد تترتب على تلك الروح بين الدوائر العسكرية والجماهيرية، رافضة الاستهانة بردود افعال quot;جماعة الشبيبةquot;.

انطلاقاً من هذا المشهد القاتم، تناول الباحث العقيد متقاعد quot;ابراهام زوهرquot;، جانباً كبيراً من البروتوكولات التي جرت بين غولدا مائير ووزرائها خلال احدى جلسات الحكومة، وبحسب كتاب الباحث الاسرائيلي quot;مقاتلو خط الماء والنارquot;، التقت غولدا اعضاء حكومتها بمشاركة عدد ليس بالقليل من الجنرالات في مقر قيادة الاركان الاسرائيلية في الخامس عشر من حزيران/ يونيو عام 1970، واستهلت حديثها بالقول: quot;لديّ سؤال واحد فقط، كنت اود سماع الاجابة عنه منكم، لقد التقيتم في ما مضى بأعداد كبيرة من الاجيال الشابة في اسرائيل، ولم يخف عليكم ما يجري خلال الاشهر الثلاثة او الاربعة الأخيرة، ولا أدري ان كان ذلك حدث قبل هذا التاريخ ام لا، ولكنه فرض نفسه بالفعل على ارض الواقع خلال الايام الاخيرة، فهل تعتقدون ان هذا حقيقي؟ وهل نحن بالفعل امام خطر كبير؟.

ويواصل ابراهام زوهر احد الاعضاء الناشطين في شعبة quot;تاريخ الجيش الاسرائيليquot; نقل بروتوكولات غولدا مائير مع قادة الاركان الاسرائيلية وبعض الوزراء، مشيراً بحسب يديعوت احرونوت الى ان رئيسة الوزراء الاسرائيلية اكدت رغم موقف جماعة الشبيبة منها ان جيل الشباب في اسرائيل جيد جداً، ولا يمكن توقع الخطر منه.

لكنه في الوقت عينه لديه بعض الاسئلة، وتثاوره بعض الشكوك. واضافت: quot;جيل الشباب، الجنود، من يقول انهم يشعرون بذلك، وانهم يرغبون في السلام، واذا كان ذلك كذلك فالجيل القديم، الاباء والاجداد، لا يرغبون، وتقول احدى الفتيات صغيرات السنّ متسائلة: كم من العمر سنعيش؟، وانني ارد عليها قائلة: انني أرى في نفسي أرملة شابة، فنحن مضطرون قبل اي شيء الى القتال، فالقتال هو الاساس، وانني هنا اتحدث عن جيل الشبيبة الطيب، ماذا يدور في رأسه؟quot;.

تحديد الصورة النهائية للوضع

تعقيباً على حديثها وخطابها الغاضب، قال قائد لواء جبهة إسرائيل الشمالية الجنرال quot;موتي غورquot; : quot;جيال الشباب يحتاج ردًا على سؤاله، انهم يرغبون في الحصول على الثقة والامن، انهم يريدون ان يصبحوا على يقين بأننا نبذل قصارى جهدنا العسكريquot;.

ووفقاً للوثائق التي نشرتها الصحيفة العبرية، كان الجنرال ديفيد بن اليعازر من بين حضور جلسة البروتوكولات، وأكد أن هناك فارقًا بين جيل الشباب عند بداية تأسيس الدولة العبرية، وبين الشباب الاسرائيلي في سبعينيات القرن العشرين.

واضاف: quot;خلال حرب 1948 كان الهدف واضحاً تماماً، والشباب يحتاج اليوم تحديد الصورة النهائية للوضع الذي اصبحنا عليهquot;. واوضح بن اليعازر، بحسب وثائق يديعوت احرونوت، ان الشباب لديه علامة استفهام كبيرة هي، ما النهاية لما يجر الآن؟.

من هذا المنطلق فإن وضع الجنود النفسي متردٍّ للغاية، واضاف: quot;الشباب يقولون: نحن علمنا اننا في حالة حرب، ويجب علينا ان ننتصر، ولكن بعد ذلك ليست هناك دولة يهودية، كما اننا لم نكن منشغلين في ما مضى بتقدمنا او تقهقرنا كيلو متراً، فإلى متى ذلك؟quot;.

خلصت الوثائق العبرية الى ان غولدا مائير أيقنت في نهاية المطاف بعدالة وشرعية تساؤلات جنودها على الجبهة المصرية، وردت على ذلك بالقول: quot;ينبغي على الجنود الاسرائيليين من الشباب ان يتفهموا انهم يقفون على الجبهة بسبب انعدام القدرة على تحقيق السلام، انني لا اخفيكم سراً انني لا استطيع القبول بإيفاد شخص محسوب على اسرائيل لزيارة مصر، حتى اذا كان هذا الشخص مؤمن بوجهات نظر إسرائيل السياسية كشخص quot;ناحوم غولدمانquot;.

كما إن مبادرة عبد الناصر سقطت في الوقت الأخيرquot;. وفي نهاية حديثها، ادعت غولدا مائير: quot;ان كل محاولات الماضي الرامية الى التوصل الى سلام بين العرب واسرائيل بائت بالفشل الذريع، ولذلك يجب تنشئة الشباب على الحقيقة حتى اذا كانت تلك الحقيقة مرّةquot;.