فرضت أذرع النظام السوري في لبنان على سياسيين كبار مناوئين له في بيروت أن يعيشوا عمليًا تحت الإقامة الجبرية خشية أن تمتد اليهم أيدي قتلته المأجورين لجر لبنان إلى أتون الحرب المستعرة في سوريا.


يتعذر بالطبع معرفة المسؤول عن عملية اغتيال اللواء وسام الحسن بصورة مؤكدة في هذه المرحلة المبكرة أو ما إذا كانت مجموعة لبنانية ضالعة في الجريمة. ولكن حتى نجيب ميقاتي رئيس الحكومة اللبنانية المدعومة من حلفاء سوريا في لبنان أشار إلى أنّ قتل اللواء الحسن يرتبط بكشفه في آب (اغسطس) الماضي عن مؤامرة سورية لتنفيذ عمليات ارهابية في لبنان واعتقال الوزير السابق ميشال سماحة بالارتباط مع هذا المخطط.

وفي النهاية فإن الرجل الذي كان يسهر على سلامة الكثير من اللبنانيين هو الذي تعرض للاغتيال في عملية قد تكون لها تداعيات اقليمية مدمرة. وكما اعلن وليد جنبلاط احد هؤلاء السياسيين الذين نادرًا ما يبارحون منازلهم، فإن اللواء وسام الحسن الذي قُتل يوم الجمعة quot;كان حاميناquot; بوصفه رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي.

وفيما تصب المعارضة اللبنانية جام غضبها على نظام الأسد في تظاهرات جماهيرية ضخمة فإن المطلوب من القوى الدولية أن توجه اهتمامها الى مخاطر فيض النزاع السوري وامتداده عبر الحدود. وإزاء الأجواء المشحونة في لبنان والتوتر المستمر على الحدود السورية التركية بالقصف المتبادل بين الجانبين فإن انتقال العدوى السورية لم يعد احتمالاً بعيدًا.

ولا شك في أن المرشح الجمهوري ميت رومني سيتلقف التطورات الأخيرة لمهاجمة سجل الرئيس باراك أوباما في مجال السياسة الخارجية. وكانت إدارة أوباما تعرضت لانتقادات لاذعة اتهمتها بالتقاعس عن التحرك بشأن الأزمة السورية على نحو يرقى الى دور الولايات المتحدة القيادي في العالم. لكنّ محللين كانوا دائمًا يتوقعون أن يحاول نظام الأسد توسيع رقعة النزاع لتخفيف الضغط الواقع عليه. وكان الأسد أعلن منذ عام أن الشرق الأوسط سيحترق إذا انهار نظامه.

والأكثر من ذلك أن تاريخ نظام الأسد الأب والابن من بعده حافل بالتدخل في شؤون الدول المجاورة واشعال الأزمات ثم التقدم لعرض خدماته في حلها مقابل تنازلات. وما من بلد اكتوى بتدخل النظام السوري يعرف ذلك كما يعرفه لبنان الذي تبدد سلامه في عام 2005 باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري مهندس اعمار لبنان بعد الحرب الأهلية.

واتجهت اصابع الاتهام الى النظام السوري الذي أُجبر على الرحيل بعد نحو 30 عامًا من الهيمنة على مقدرات لبنان بقوة وجوده العسكري. واصدرت المحكمة الدولية التي شُكلت للتحقيق في اغتيال الحريري قرارات اتهام بحق عناصر في حزب الله اللبناني.

ولكن النظام السوري يريد أن يكون لبنان عمقًا له. فالانتفاضة الشعبية ضده تحولت الى كفاح مسلح بعد نحو تسعة عشر شهرًا من النزيف وسيطرة المعارضة على مناطق واسعة من سوريا. ودخل النزاع طريقًا مسدودًا دون أن يكون أي من الطرفين قادرًا على حسمه لصالحه. ويرى محللون أن السبيل الوحيد امام نظام الأسد لتحقيق افضلية على قوات المعارضة هو تقويض قدرتها على الصمود والاستمرار.

ونقلت صحيفة فايننشيال تايمز عن سمير التقي المستشار السابق في الحكومة السورية ومدير مركز الشرق للأبحاث في دبي حاليا أن الأسد quot;ليس لديه حل في الداخل ومخرجه الوحيد هو أن تقوم دول مجاورة بخنق المعارضة نيابة عنهquot;.

واضاف التقي أن رسالة الأسد الى تركيا ولبنان هي quot;لا تسمحوا بتدفق السلاح الى الثوار واتركوهم لي. فهو يعرف أن الاميركيين لا يريدون التورط وبالتالي فإن التدخل الدولي لا يقلقه بل أن مشكلته الوحيدة هي الجيرانquot;.

وليس من السهل على المعارضة اللبنانية والحكومة التركية أن تبقيا ساكتتين تجاه استفزازات النظام السوري. ولكن حكومات غربية تنصحهما بأن مصالحهما تكمن في ضبط ردود افعالهما ومنع النظام السوري من جرهما الى مأزقه. وها ان الدول المجاورة ترى ان نظام الأسد إذا حشر في الزاوية يكون عدواً اخطر على شعبه وعلى المنطقة.

تسخير حزب الله ليكون quot;آلة قتلquot;

كان حزب الله في مقدمة المتأثرين بالتداعيات الاقليمية للأزمة السورية بل والربيع العربي عموماً، كما يؤكد انحسار نفوذه بعد ثلاثة عقود من الاتساع المطرد. وقال جيمس بتريتا كبير المحللين في شركة مايبلكروفت المختصة بالاستشارات الأمنية في بريطانيا quot;من المؤكد أن الأزمة تنطوي على امكانية التحول الى أصعب مأزق يواجه حزب الله. ومن المؤكد أن يكون النزاع في سوريا والضغوط المتزايدة على ايران امتحانًا لصلابة الحزب ونضجه، وليس من شأن هذا الامتحان إلا أن يزداد صعوبة على الحزبquot;.

ويقف خصوم حزب الله في لبنان على أهبة الاستعداد لاستثمار تراجع نفوذه في صفوف قاعدته الشيعية التقليدية مع استماتة الأسد للتشبث بالسلطة وانهماك الرئيس الايراني احمدي نجاد في مواجهة الاحتجاجات التي تفجرها الأزمة الاقتصادية الايرانية.

وتطالب قوى 14 آذار (مارس) باستقالة حكومة نجيب ميقاتي المدعومة من حزب الله بعد اغتيال اللواء وسام الحسن. واتهم العديد من قادة التيار النظام السوري بالوقوف وراء اغتياله ومنهم احمد فتفت الذي قال لقناة quot;المستقبلquot; التلفزيونية ان كل من يدعم الأسد متواطئ معه.

ويأتي تصريح فتفت بعد اعلان سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سوزان رايس أن مقاتلي حزب الله جزء من quot;آلة القتلquot; التي يستخدمها نظام الأسد ضد شعبه وان قادة الحزب يواصلون التنسيق مع ايران quot;لدعم دكتاتور قاتل ويائسquot;.

ونقل موقع بلومبرغ عن بول سالم مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت أن دعم حزب الله لنظام الأسد quot;ترددت اصداؤه في انحاء العالم العربي وأكد الرأي القائل ان حزب الله هو في نهاية المطاف جزء من تحالف استراتيجي بقيادة ايران وليس حركة عامة تدافع عن المسحوقين والمظلومين، كما يدعيquot;.

وكان حزب الله التنظيم المسلح الوحيد الذي رفض تسليم سلاحه بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية متناميًا من ميليشيا صغيرة الى اقوى حزب سياسي في لبنان له مقاعد في المجلس النيابي ووزراء في الحكومة. كما يدير الحزب برنامجاً للخدمات الاجتماعية بمستشفيات ومراكز تعليمية وخدمات اخبارية. ويقول الحزب إنه يحتفظ بترسانته للدفاع عن لبنان ضد الاعتداءات الاسرائيلية.

وقال مايكل ستيفنز الباحث في معهد الخدمات الموحدة الملكي في بريطانيا إن أي حكومة جديدة في سوريا لن تكون ودية تجاه حزب الله وان وصول السلاح اليه سيكون أصعب ونفوذه سيتراجع. واضاف ستيفنز في حديث مع موقع بلومبرغ من قطر quot;من حيث استقرار الحزب فإن حزب الله سيبقى سليمًا وإذا رحل الأسد سيواجه الحزب متاعب ولكنها ليست ضربة حاسمة لهquot;.

ويصور حزب الله نفسه حزبًا اسلاميًا وليس حزبًا شيعيًا طائفيًا. واكتسب الحزب شعبية في عموم المنطقة بعد حربه مع اسرائيل في صيف 2006، بما في ذلك في دول الخليج، رغم ارتباطاته الايرانية. لكنّ الثوار السوريين المدعومين من دول خليجية اليوم يحرقون علم الحزب الأصفر بانتظام ويدوسون على صور قادته تحت اقدامهم.

وكان حزب الله جاهر بدعمه الأسد الذي ينتمي الى الطائفة العلوية، احد فروع المذهب الشيعي، منذ بداية الانتفاضة الشعبية ضده في آذار (مارس) 2011. ويميز الأمين العام للحزب حسن نصر الله بين الأسد والزعماء العرب الذين كنستهم احتجاجات الربيع العربي التي نالت في البداية ترحيب حزب الله.

وفي كلمة القاها نصر الله في 7 شباط (فبراير) أشار في غمرة تصاعد المواجهات بين النظام والمعارضة الى quot;قرار اميركي غربي اسرائيلي عربيquot; لاسقاط الأسد. واعترف نصر الله في الخطاب نفسه للمرة الاولىبتلقي حزبه دعمًا ماليًا وعسكريًا من ايران الى جانب الدعم المعنوي والسياسي.

وبسبب دور حزب الله المتزايد في النزاع السوري تزداد حدة التوتر والاحتقان بين مؤيدي النظام السوري ومناوئيه في لبنان. واعلنت قوى 14 آذار (مارس) أن إرسال حزب الله طائرة بدون طيران فوق اسرائيل يؤكد قناعة اللبنانيين باستخدامهم في خدمة مآرب ايران.


كبش محرقة
واصدرت الأمانة العامة لقوى 14 آذار بيانًا اعلنت فيه أن تبني حزب الله ارسال الطائرة quot;يكرس اقتناع اللبنانيين بأنهم يوضعون في موقع كبش المحرقة في الصراع الاقليمي الدولي الراهن في المنطقة، ويُحولون الى درع واقية لإيران تحديدًاquot;.

وكانت العلاقات بين المؤيدين والمناوئين لنظام الأسد تفاقمت قبل ذلك بالاشتباكات التي شهدتها مدينة طرابلس. وشارك آلاف اللبنانيين من مؤيدي تيار 14 آذار في تشييع اللواء وسام الحسن يوم الأحد الذي كان quot;يوم غضبquot; ضد النظام السوري. ولا يُعرف حجم الدعم الذي يقدمه حزب الله لنظام الأسد ولكن المعارضة السورية تقول إن الحزب يرسل مقاتلين لسحق الانتفاضة وقصف مواقع مقاتليها من قرى لبنانية حدودية.

ونفى نصر الله في وقت سابق من هذا الشهر ارسال عناصر من حزب الله للقتال مع قوات النظام السوري ولكنه لم يستبعد ارسالهم في المستقبل. وقال الباحث جيمس بتريتا في لندن quot;إن هذا سيلقي ضوءاً ساطعًا على دور حزب الله التقسيميquot; مشيرًا إلى أنّ دعم الحزب quot;لنظام الأسد الذي يواجه نقمة شعبية متزايدة قد يثبت كونه أكبر مصادر ضعفهquot;.