فيما لا تنبئ النقاشات الجارية في مجلس الأمن بحل نهائي للأزمة السورية، بقدر ما تنذر ببداية نزاع مديد ودموي على نحو متزايد، سيكون موضوعًا يتكرر بحثه في الأمم المتحدة لأشهر مقبلة عدة، تواصل الإدارة الأميركية التعبير عن اقتناعها بحتمية زوال النظام السوري.


لندن: فيما كان مجلس الأمن الدولي يبحث الأزمة السورية بحضور ممثلين عن القوى الكبرى من العيار الثقيل، واصلت إدارة الرئيس أوباما التعبير عن اقتناعها بحتمية زوال النظام السوري.

وأعلن الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني أن الرئيس بشار الأسد quot;سيرحلquot;، وحثّ الدول، التي تعارض مشروع القرار الداعي إلى تنحّي الأسد، على التسليم بهذه الحقيقة. لكن مراقبين يرون أن ترقب البيت الأبيض للحظة السقوط على أنها وشيكة لن يكون في محله، وإن كانت حتمية في نهاية المطاف.

وليس جديدًا على نظام دكتاتوري، لا يتورّع عن استخدام آلته العسكرية ضد معارضيه، أن تتفق قوى غربية ودول عربية مناهضة له على العمل من أجل رحيله. فإن الأسد أدرج ذلك في حساباته منذ زمن طويل، وخلص إلى أنه، في ضوء موازين القوى الداخلية والدولية، قادر على الخروج من الأزمة الآنية بالقوة الغاشمة، وحتى وإن كانت آفاق بقائه قاتمة على المدى الأبعد.

على أساس هذه الحسابات، لن يستجيب الأسد لمشروع القرار الذي قدمته الجامعة العربية إلى مجلس الأمن بدعم من القوى الغربية. فهو يدعو بصراحة إلى تنحّيه، ومثل هذا المآل لا يعكس ميزان القوى على الأرض في ما أصبح حربًا أهلية شاملة، على حد وصف مجلة تايم، مستبعدة تمرير القرار، الذي يقترح نقل السلطة إلى نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، وتكليفه بتشكيل حكومة وحدة وطنية مع المجلس الوطني السوري، والتحضير لانتخابات جديدة.

وبخلافه سيواجه النظام quot;عواقب لاحقةquot;، ليست محدَّدة في غضون 15 يومًا. ولكن روسيا أعلنت أنها ستلجأ إلى استخدام الفيتو ضد القرار بنصه هذا. وتدعم روسيا نظام الأسد بلا تحفظ، وهي لا تخفي شحنات الأسلحة الضخمة، التي ترسلها لتمكينه من مواصلة حملته ضد المحتجين.

وتنظر موسكو إلى دمشق على أنها حليف أساسي في المنطقة، يمنح البحرية الروسية قاعدتها الوحيدة في البحر المتوسط عبر استقبال سفنها في ميناء طرطوس. وهي تعتزم منع القوى الغربية من نيل التفويض الذي يجيز لها اتخاذ إجراء قد يفتح ثغرة يمكن أن تتسع، بحيث يتحول هذا الإجراء إلى عملية لتغيير النظام، على غرار قرار مجلس الأمن الدولي لحماية المدنيين في ليبيا.

وكانت الصين دعمت في أواخر العام الماضي معارضة روسيا لقرار يدعو إلى التحرك بشأن الأزمة السورية. ولعل التصدي للنفوذ الجيوسياسي الغربي، ولو من موقع ضعيف نسبيًا خارج مجلس الأمن، يتيح فرصة مغرية لرئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، تمكنه من رفع رصيده في وقت يخطط فيه للعودة إلى الكرملين.

ويشير تصاعد المواجهات في ضواحي دمشق وتزايد أعداد الضحايا إلى أن ما يجري على الأرض تجاوز الحلول المقترحة في أروقة الأمم المتحدة. فإن ما يجري على الأرض حرب أهلية ذات بعد طائفي، دفع إليها الأسد بنفسه عبر اختيار الرد الأمني على الانتفاضة، مدركًا أن الحفاظ على قاعدة مؤيديه من العلويين والمسيحيين والنخب السنية في المدن، يعتمد على خوفهم من البديل، لا حبًا في نظامه، على حد تعبير مجلة تايم.

ورغم التحديات المتعاظمة، التي يواجهها النظام من أفراد المعارضة المسلحين، الذين انشق كثير منهم عن الجيش النظامي، فإن أجهزة الأسد الأمنية الأساسية ما زالت متماسكة من حيث الأساس، وتتمتع بتفوق كبير في التنظيم والسلاح. ويسيطر على هذه الأجهزة علويون يخافون، حقًا أو باطلاً، على مستقبلهم في سوريا ما بعد الأسد، وهم مستعدون للقتال من أجل إبقاء هذا اليوم بعيدًا قدر الإمكان.

وفي حين أن فرص الأسد لحكم سوريا موحدة بتأييد من غالبية مواطنيها تبددت منذ زمن بعيد، فإن هناك أمثلة تاريخية وإقليمية عديدة على تمكن أنظمة سلطوية قاعدتها من الأقليات العرقية أو المذهبية من البقاء في الحكم رغم كل التحديات. ومن هنا كان استعداد الأسد لخوض الصراع على السلطة بحرب طائفية بدلاً من الحوار السياسي.

ويرى الخبير في الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما الأميركية جوشوا لانديس أن ثلاثة أسباب قد تمكن نظام الأسد من البقاء عامًا آخر أو اكثر، رغم تردي وضعه الأمني والاقتصادي وعزلته الدبلوماسية.

أولاً، كما يذهب لانديس، أن النظام أعدّ نفسه لهذا الاحتمال منذ ما يقرب من نصف قرن، غامرًا الأجهزة الأمنية الرئيسة وجهاز الدولة بعلويين موالين، يشكلون غالبية الضباط الكبار، ويقودون أهم الوحدات القتالية. وتتمتع هذه الوحدات بتفوق عسكري ساحق على تشكيلات الثوار، الذين هم في غالبيتهم من السنة، وفي مقدمتهم الجيش السوري الحر.

ورغم انشقاق عسكريين بأعداد كبيرة، وخاصة في صفوف المجندين السنة، فإن بوادر تصدع تُذكر لم تظهر في أجهزة النظام الأمنية، بل إن أفرادها يعدّون أنفسهم لمعركة مديدة، يعتقدون أن الهزيمة فيها ستحكم على طائفتهم بالهلاك.

ثانيًا، كما يلاحظ لانديس، أن المعارضة منقسمة سياسيًا، وانقساماتها تتبدى بين قيادة المجلس الوطني السوري في الخارج والكثير من الثوار على الأرض، وخاصة حين يتعلق الأمر بقبول التفاوض مع النظام. كما إن الجيش السوري الحر لا يخضع مباشرة لقيادة المجلس الوطني السوري، ويبدو أنه في هذه المرحلة يتألف من مجموعات قتالية محلية مبعثرة بلا قيادة وطنية موحدة.

وقد يمر بعض الوقت قبل أن يكون الجيش السوري الحر في وضع يمكنه من تحدي قوات النظام في مواجهات مباشرة. ولنتذكر أن القوات المعادلة للجيش السوري الحر في ليبيا لم تنتصر إلا بعد أشهر من الإسناد الجوي القريب، الذي وفرته طائرات حلف الأطلسي ودول حليفة أخرى. من هذا الواقع ينبثق سبب لانديس الثالث للشك في سقوط النظام الوشيك، وهو غياب الرغبة في التدخل لدى القوى الخارجية ذات العلاقة.

إذ من المستبعد أن تتدخل القوى الغربية في سوريا إلا إذا كان لإسناد تدخل لاعبين إقليميين، مثل تركيا والجامعة العربية. ولكن الجامعة العربية منقسمة بوقوف لبنان والعراق والجزائر إلى جانب دمشق، في حين أن العربية السعودية نفسها لا تبدي ميلاً يُذكر إلى الدفع باتجاه رد عسكري مباشر.

وتبدي تركيا، رغم دعمها للمعارضة والجيش السوري الحر، قلقًا متزايدًا إزاء تداعيات سقوط الأسد على صراعها الداخلي مع أكرادها. ولم ينضم أكراد سوريا إلى الانتفاضة بدرجة يُعتد بها، ومن الجائز تمامًا أن نظام الأسد سينفض الغبار، في حال تدخلت تركيا، عن استراتيجيته السابقة في دعم حزب العمال الكردستاني، وبذلك تتأجج نيران تعمل تركيا جاهدة على إخمادها.

والحق أن جميع القوى الخارجية تدرك المخاطر الإقليمية المتعددة، التي يثيرها انزلاق سوريا نحوحرب أهلية، يمكن أن تنجر إليها أطراف طائفية من لبنان والعراق، وتهدد بتقويض الاستقرار في تركيا وإسرائيل والأردن، كما يرى الخبير لانديس.

يعمل هذا كله، بالطبع، لمصلحة الأسد، وهو كلما دفع الوضع باتجاه النزاع الأهلي عزز العوامل التي تسند نظامه على المدى القريب، حتى وإن كانت تضعفه على المدى الأبعد. وكلما عسكر النزاع زاد احتمال صعود العناصر الأشد تطرفًا وطائفية من الجانبين لإدارته على حساب قوى سياسية أكثر اعتدالاً وأوسع تمثيلاً.