لم تعد الصحافة في العراق مهنة البحث عن المتاعب بل صارت مهنة البحث عن الوجاهة، لأن الاحتراف والموضوعية غابا عنها، لصالح التحزب والمحسوبية، في جو من الفوضى، لا تحكمه التشريعات ولا تنظمه القوانين. هذه حال صحافة العراق في الذكرى 144 على انطلاقها.


بغداد: أكد صحافيون عراقيون أن الصحافة العراقية ازدحمت خلال السنوات العشر الاخيرة بالباحثين عن الكسب غير المشروع، فهي مفخخة بالطارئين الذين تتجاوز غاياتهم الهدف الحقيقي للصحافة، ومكتظة بأصحاب المصالح الشخصية والفئوية، الذين لا يترددون عن استخدام الصحافة للضغط والابتزاز والتسقيط أحيانًا، في غياب تام للضمير المهني والوازع الأخلاقي. وفي الذكرى 144 لصدور صحيفة الزوراء، أول جريدة عراقية، في الخامس عشر من حزيران (يونيو) 1869، والذي اصبح في ما بعد عيدًا للصحافة العراقية، يتأمل الصحافيون واقع صاحبة الجلالة، التي فقدت تأثيرها في الشارع أو في الحكومة. وحتى الذين كانوا يرون فيها مهنة البحث عن المتاعب صاروا يرونها مهنة البحث عن الوجاهة والكسب، والا ماذا يفعل اكثر من 16 ألف صحافي عراقي ؟

غياب الضمير المهني
يرى الدكتور طه جزاع أن الصحافة العراقية ما زالت تبحث عن قوانين وتشريعات وضمانات مهنية حقيقية، وهي بحاجة ماسة إلى تنقية صفوفها من عديمي الضمير المهني والأخلاقي، لضمان عدم استخدامها في الاساءة والابتزاز أو اثارة النعرات والخلافات على اختلاف اشكالها وأنواعها. وقال: quot;أذكر أن الزميل حيدر البطاط وصل إلى بغداد في تموز (يوليو) 2003 مراسلًا لمحطة BBC اللندنية، فزارني مندهشًا من عشرات الصحف اليومية وشبه اليومية والأسبوعية والمجلات المتنوعة التي انتشرت في ثلاثة أشهر بعد الاحتلال الاميركيquot;
أضاف: quot;كنت أراها ظاهرة طبيعية، بسبب تراكم الخبرات الصحافية المحلية، ووجود طوابير من الصحافيين العاطلين المستعدين للعمل بأدنى الأجور، وتوفر أجواء الحرية الواسعة لاصدار الصحف من دون أي ترخيص أو موافقات حكومية، وتوقعت يومها أن يختفي الكثير من هذه الصحف وتبقى التي قامت على أسس صحافية ومهنية سليمة، واليوم وبعد عشر سنوات، أصبحت الصورة أكثر وضوحًا بوجود عشرات الصحف والمجلات المستقلة والحكومية والحزبية والشخصية، وبرزت المشكلات التي يعاني منها الصحافيون، في ظل غياب تشريعات قانونية قوية تضمن سلامتهم وحريتهم وحقوقهم المهنية، باستثناء بعض القوانين التي مازالت في موضع البحث والجدل والنقاش والتعارض والاختلافquot;.
وبحسب جزاع، أصبحت الصحافة بيئة جاذبة للباحثين عن الوجاهة والمغامرة والكسب غير المشروع، أو لأصحاب المصالح الشخصية والفئوية، في غياب تام للضمير المهني وللوازع الأخلاقي، quot;كما اصبحت بعض الصحف تحت رحمة الممولين الذين لا يجدون حرجًا في اغلاق صحيفتهم في لحظة مزاج، من دون التفكير بمصير وأرزاق من يعمل فيهاquot;.

لا نضوج
يشير الصحافي الدكتور محمد بديوي الشمري إلى عدم ولادة تجربة صحافية ناضجة بعد عشر سنوات على التغيير في العراق. قال: quot;ما زالت الصحافة العراقية تعيش حالة فقدان وزن، حيث لا يتناسب حضورها وتأثيرها مع حجمها الكمي الذي بلغ قوامه عشرات الصحف والمجلات، ولهذه الحالة أسباب عدة من أهمها عدم وجود حرية في العراق بالمعنى الحقيقي للحرية، بل شيوع الفوضى بمعنى أن تفعل ما تريدquot;.
أضاف: quot;تعثر حركة الاستثمار في العراق منع قيام إعلام خاص قادر على تمويل نفسه، والارتكاز إلى حريته في الرواج وحيازة فرص التمويل من الاعلان والتوزيع، الامر الذي فتح الباب للمال السياسي لأن يدخل الميدان، ويترك بصمته على كل ركن من أركان المشهد الصحفي الراهن في العراق، وهذا الواقع أفرز ظواهر سلبية اهمها تحول وسائل الاعلام إلى أدوات سياسية حزبية تمارس الدعاية اكثر من الاعلام، فتتماهى مع الخطاب المتشنج ذات التوجهات الطائفيةquot;.
وتابع: quot;وبدأ الصحافي العراقي رحلة جديدة مع المنع والمصادرة، وبدلًا من جهاز مخابرات ومديرية أمن واحدة تقض مضجعه، هناك اليوم ألف جهة تملك القدرة على ذبح الصحافي في وضح النهار، دون محاسبةquot;.

وسيلة سريعة للربح
يؤكد الصحافي صالح الشيباني، مدير تحرير جريدة القلعة الاسبوعية، أن الصحافيين الحقيقيين ضائعون أو مختبئون وراء جدار مبادئهم أو مهنيتهم. قال: quot;اختفت الحيادية مع ازدياد عدد الصحف المنحازة إلى من يمولها، ففقدت الصحافة أهم مقوماتها الاساسية بعد عشر سنوات من سقوط نظام الحزب الواحدquot;.
أضاف: quot;المهنيون قلة صغيرة، مع ازدحام المشهد الصحافي بعدد كبير من الطارئين أو أشباه الصحافيين، ويكفي أن نطالع عينة عشوائية من الصحف لنكتشف أنها لا تنتهج الطريق المهني الحقيقي الذي يرتكز على مصادر رصينة للمعلوماتquot;.
وتابع: quot;الصحافة اصبحت وسيلة سريعة للربح، لا سيما إذا ارتبطت بأجندات خارجية تدفع ملايين الدولارات لترسيخ سياقات فكرية معينة عند الجمهور المستهدف، أو للضغط على من يتبنى الاجندات المضادة لنيل مكاسب اضافية، ووسط هذا البحر المتلاطم نجد أن الصحافيين الحقيقيين ضائعون أو مختبئون وراء جدران مبادئهم أو مهنيتهمquot;.

لا نملك صحافة حقيقية
اشار الصحافي مازن لطيف إلى قلة الصحافيين الملتزمين فيما تكاثر الطارئون، quot;فقد تميّز الصحافيون العراقيون بأنهم خيرة صحافيي الوطن العربي، لكن بعد العام 2003 تغيّر الكثير من مهنية الصحافة العراقية، وصار من هب ودب صحافيًا، والغريب أننا لا نملك إلى الآن 20 صحافيًا حقيقيًا ومهنيًا في العراق، فلا يغرن البعض العدد الهائل من الصحافيين، فأغلبهم لا ناقة له بالصحافة ولا جملquot;.
أضاف: quot;لو قارنا صحف الامس باليوم لوجدناها اكثر مهنية في كل شيء، والدليل أن عددًا من الصحف تأخذ مقالات كثيرة من الصحف القديمة، فنحن لا نملك صحافة حقيقية بالمعنى الدقيق للصحافة، واغلب الصحف العراقية تتملق الاحزاب والسياسيين لتستمرquot;.

مشهد فوضوي
من جهته، اعرب الصحافي يحيى الشرع عن أسفه لما آل اليه حال الصحافة، وقال: quot;واقع غير مستقر، والمشهد فوضوي، اذ من يتحكم بالمؤسسة الاعلامية آتٍ من خارجها، بالمحسوبية والتحزب والقرابة والعلاقات الجانبية, فنرى مؤسساتنا الاعلامية ناقلة للخبر وغير قادرة على صناعة الخبر باحترافيةquot;.
أضاف: quot;الاعلام هنا لم يكتب له النجاح لأن المتسيد على إدارة المؤسسة يبخس العاملين أجرهم، فنراه يعطيهم اجورًا متدنية قياسًا إلى دول الجوار، بينما يكتب قائمته إلى الممول بأرقام عالية، وهذا أمر خطير، لأن من يقبل بهذا العمل الشاق مع الأجر القليل هم انصاف صحافيين وطارئين على المهنة، والدليل لماذا لا ترى على شاشة الجزيرة أو العربية أو الميادين اعلانات طلب محررين أو مذيعين، لأن الكفاءات مزدحمة على ابوابهم، واقل واحد متقدم يحمل شهادة ماجستير في الاعلام، ويجيد لغتين أو أكثر، اما هنا فبإمكان بائع الطماطم أن يصبح رئيسًا للتحريرquot;.