كان قد عاد الى بغداد قبل نحو عام، الفنان العراقي حمودي الحارثي بعد غربة طويلة،عاد لكي يحافظ على ذاكرته التي حاولت الغربة المريرة ان تأكلها، عاد لكي يبرد ذلك الحنين الذي يتعالى في نفسه شاهقا بعذابات كثيرة، عاد ليعيش على تلك الارض التي ولد عليها وابدع واشتهر وغادرها مكرها حزينا، عاد لكي يلتقي ناسه واصدقاءه ومعحبيه الحقيقيين ويستذكر اياما وامكنة ووجوها احبها واحبته، وقد وجدته سعيدا جدا بالعودة الى وطنه وعشت معه تلك اللهفة في ايامه الاولى في بغداد لا سيما بعد الحفاوة الشعبية الكبيرة التي قوبل بها، وكان اسمه الذي اشنهر به (عبوسي) يتردد بمحبة واضحة على الالسن التي تستذكر مقاطع من المسلسل الشهير له (تحت موس الحلاق) الذي مضت عليه نحو اربعة عقود !!، كما كنت قريبا منه وألتقيه ويسرني باحلامه البسيطة التي لا تعدو اكثر من الاستقرار في الوطن الذي فارقه طويلا ليعوّض ما فات او بعض ما فات، وان يعود ابناؤه ليجدوا الحضن الدافيء في بلدهم.


ولكن.. حمودي الحارثي الذي يحمل شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للسينما في مصر، والذي يعد من المخرجين والممثلين المميزين في العراق وارتبط بالذاكرة الشعبية للناس على مدى سنوات طويلة، لم يجد مكانا له في العراق، لم يجد ما يمنحه الاستقرار، كان قد منح درجة وظيفية في وزارة الثقافة، لكنها كانت مجرد حبر على ورق، كان طوال المدة التي امضاها في بغداد يسكن في بيوت بنات شقيقاته وأجد اقاربه، لكنه كان لاجل عيون العراق يحتمل، كان يصر على ان ينتظر ويصبر، ولكن رحلاته المكوكية الى وزارة الثقافة لم يحصد منها غير اعجاب الجمهور هناك، لا اعجاب المسؤولين، فيما الامر الذي يأتي من اجله غارق في نوم عميق.


وتواصلا مع رغبة الاسرة في العودة من (المنفى) والاستقرار في بغداد، ألتحقت به زوجته المخرجة المسرحية المعروفة منتهى محمد رحيم، وكانت تتمنى ان تعود للعمل في دائرتها (دائرة السينما والمسرح) وتشارك زملاءها ابداعهم لا سيما انها تمتلك الخبرة المميزة في مسرح الطفل، ولكن اوراق اعادتها الى الوظيفة.. كما يبدو احترقت واصبحت احلامها رمادا، فلم يجد بعد ذلك حمودي الحارثي الا ان يشعر باليأس، مثلما شعرت به زوجته المخرجة، والا ان يحزنا على ما حدث، ومن ثم.. العودة الى.. من حيث جاءا، عادا الى الغربة مجددا، وفي حناياهما قلبان يتصببان وجعا وغربة.


ترى.. الا يستحق حمودي الحارثي ابن الـ (74) عاما ان يستقر في بلده؟، الا يستحق الرعاية والعناية والاهتمام قليلا واعادته الى الوظيفة وكذلك زوجته ؟ اما كان بالامكان احتضان الرجل وتقدير مسيرته وانقاذ ذاكرته من صقيع الغربة او نيران المنفى ؟ لم اجد اجابة سوى الرثاء للوجع الذي احسسته في داخل الحارثي وهو يتطلع الى افق الامل الذي اغلقت ابوابه، او وهو يغادر العراق بدون ان يقول له أحد (الله وياك عبوسي)!!