في الشهور التي تلت اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، راجت في لبنان تحليلات صحافية وسياسية تعليقاً على الاتهام السياسي لسوريا باغتيال الزعيم اللبناني ورفاقه، تفيد ان سوريا دفعت الثمن مقدماً عبر انسحاب جيشها من لبنان على عجل في ربيع العام 2005، وهي عقوبة كافية. وتالياً يجدر بدم الرئيس الحريري ان يوصل ورثته إلى السلطة، وهذا في حد ذاته افضل انتصار لدمه على المستوى السياسي.
وفي خضم تلك المسارات السياسية المتفجرة يومذاك ولدت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وكانت ولادتها تعني بالنسبة للبنانيين ان زمن محاورة لبنان بالمتفجرات وكواتم الصوت ولى، وعلى الأطرف المعنية بلبنان، نفوذاً او طموحاً او حتى استعداءً، ان تقلع عن اعتماد هذه الوسيلة في الحوار. وغني عن التأكيد ان قوى 8 آذار ndash; مارس أجازت، ولو بعد عنعنات واعتراضات من مواقعها في السلطة السياسية، اقرار وتمرير الاتفاقات التي وقعتها حكومة لبنان مع الأمم المتحدة والتي قامت المحكمة الدولية بموجبها. ذلك ان ثمة عنصر حاسم كان جاثماً على المشهد اللبناني يومذاك مكن اللبنانيين جميعاً من الإجماع، ولو على بعض خلاف في التفاصيل، على نشوء المحكمة. هذا العنصر تمثل بواقع ان المشهد السياسي اللبناني يومذاك اجمع على اتهام اطراف خارجية بارتكاب الجريمة. ففي وقت اتهمت قوى 14 آذار ndash; مارس النظام السوري وصنيعته الأمنية في لبنان بارتكاب الجريمة، كان يروج في اوساط فريق 8 آذار اتهامين لطرفين مختلفين: الأصوليون، وإسرائيل. وعلى تحميل المسؤولية واتهام خارج ما بارتكاب الجريمة انتظمت الحياة السياسية اللبنانية طوال السنوات الخمس الماضية، ويمكن القول، رغم المآزق الكثيرة التي واجهتها انها بقيت متحركة على بعض من وجوهها. ذلك ان ثمة فارق كبير بين ان يكون المتهم من الخارج او أن يكون من داخل النسيج اللبناني وإحدى القوى المؤثرة فيه. فحين يكون الطرف خارجياً يسهل تدفيعه الأثمان المناسبة في السياسة اولاً، بصرف النظر عن العملية القضائية الدولية ومساراتها التي لا يمكن للبنان ان يتحكم بها. لكن اتهام طرف داخلي بالجريمة يكسر اول ما يكسر الإجماع اللبناني نفسه على استنكار الجريمة والمطالبة بالاقتصاص من القتلة.
في الحال الثانية، لا يستطيع لبنان ان ينجو من تداعيات خطيرة على سلمه الأهلي وعلى مسكة اجتماعه، وعلى التعايش بين طوائفه. وحيث ان الجريمة لم تكن حادثة في سياق معزول بل اعقبتها جرائم اغتيال اخرى كثيرة، فهذا يفترض ان تثبيت الاتهام لطرف لبناني بجريمة اولى سيجعله مداناً بالجرائم التي تلتها استتباعاً. وهي جرائم أقل ما يقال فيها انها دمرت الحياة الطبيعية في لبنان زمناً طويلاً واسترهنت ماضي وحاضر ومستقبل لبنان في تلك الفترة. فلم يكن ثمة ما يحصل في لبنان غير الانفجارات والتظاهرات المعترضة على جرائم الاغتيال.
لهذه الأسباب يصعب ان يتوصل اللبنانيون إلى تسوية للمأزق الذي وجدوا انفسهم فيه. وتالياً ليس ثمة من خيار امام القوتين المتواجهتين في البلد إلا المضي في خياراتهما نحو النهايات. وبكلام أوضح: لسان حال حزب الله يقول: ما دام ثمة اتجاه لتحميلنا مسؤولية الجرائم التي وقعت في البلد طوال الخمس سنوات الماضية فليس ثمة سبب يدعونا إلى النكوص عن القبض على زمام البلد برمته، ما دام تجريمنا قد اصبح أمراً لا يد لنا بتغيير مساره. في المقابل، لا يستطيع تيار المستقبل حتى لو أذعن لمطالب حزب الله ان يحمي السلم الأهلي والاستقرار. ذلك ان صدور قرار عن المدعي العام الدولي دانيال بلمار يظن بحزب الله في ارتكاب الجريمة، يعني اتهام نصف البلد باغتيال نصفه الآخر. وفي هذه الحال ليس ثمة فارق كبير بين الاغتيال المعنوي الذي يدعى زعيم تيار المستقبل إلى ولوج نفقه، والاغتيال المادي الذي اودى بحياة والده الرئيس الراحل.