فى يوم 10 مارس توفى إلى رحمة الله فضيلة الأمام الأكبر محمد سيد طنطاوى(28 اكتوبر 1928-10مارس 1910). كان الدكتور طنطاوى رحمه الله يعبر بوضوح عن المسلم المعتدل غير المؤدلج وغير المسيس وفقا لآجندة الإسلام السياسى الذى علا صوته منذ ما يعرف بالصحوة الإسلامية.كان امتدادا حقيقيا للمدرسة العقلانية المستنيرة الحديثة التى جسدها من الأزهر أيضا الأمام محمد عبده فى النصف الأول من القرن العشرين، ولا ابالغ إذا قلت أن فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوى يفوق الشيخ محمد عبده فى شجاعته وإستنارته، حيث وقف فى وجه تيار صاخب من الظلاميين والتكفيريين وأعداء الحياة الإنسانية فى حين أن فتاوى الأمام محمد عبده كانت تسير مع التيار العقلانى الذى ساد مصر فى تلك الفترة،ولهذا وصف البعض الشيخ محمد سيد طنطاوى بأنه quot; عمامة ضد التيارquot;.
وصف البعض الآخر فتاوى وكتابات الراحل الكريم بأنها مثيرة للجدل، وهى كذلك فى مجتمع متخلف غارق فى السلفية والأصولية لأنها محفزة للعقل على التفكير ولكنها متوافقة مع التطور الطبيعى فى حالات المجتمعات التى تأخذ بأسس العقلانية والرشادة والتسامح الدينى. كانت اجتهادات فضيلة الأمام تنطلق من اعتبارات وسمات محددة يمكن تلخيصها فى الأتى: التيسيير والوسطية،الإجتهاد العقلانى المستنير للتوفيق بين العقل والنص،مصالح البشر أهم مقصد من مقاصد الأديان،التوافق مع العالم المعاصر، الواقعية السياسية،التسامح الدينى. ولهذا لم يكن مستغربا هجوم تيارات الإسلام السياسى والقوى الظلامية عليه حتى بعد رحيله، ولكن المستغرب وصف باحث معروف مثل الدكتور وحيد عبد المجيد فى جريدة المصرى اليوم بتاريخ 19 مارس 2010 الشيخ سيد طنطاوى بأنه ليس مجتهدا ولا مستنيرا ولا مجددا ولا معتدلا!!، يبدو أن الدكتور وحيد يرى الإجتهاد فى الغوص فى كتابات ابن تيمية وابو حامد الغزالى وإستخراج منها كل ما يعقد الحياة الإنسانية ويسير عكس التطور البشرى، وهنا يصبح التشدد اجتهادا والتعقيد تقوى والإعتماد على الفقه الظلامى تعمقا. الشجاعة الحقيقية هى خلق اجتهاد جديد يتماشى مع روح العصر ويتجاهل تماما هذا التراث القديم الذى لا يتفق مع العالم المعاصر، وهو ما لخصه الباحث المسلم المقيم فى امريكا أحمد محمد الذي يدعو إلى quot;إسلام جديد يواكب روح وثقافة وأخلاقيات العصر، وهو إسلام ديني وليس دنيوي، لاهوتي وليس سياسي، تسامحي وليس انتقامي، تعاوني وليس تصادمى، سلمي وليس عدواني، عقلاني وليس إرهابي، روحي وليس مادي، تبليغي وليس إكراهي quot;.
ستبقى فتاوى الأمام الأكبر فيما يتعلق بحقوق المرأة وحقها فى تطليق نفسها وفى مناهضته للختان،وفى تأييده لنقل الأعضاء، وفى تحليل فوائد البنوك، وفى قضية النقاب، وفى عدم التدخل فى الشأن الفرنسى الداخلى فيما يتعلق بقضية الحجاب، وفى الحوار بين الأديان بدون عنصرية وتعصب.... كلها امور تشهد على شجاعته فى الإجتهاد وعلى استنارته وعمقه وسماحته. وحقا قال عنه شيخ الأزهر الحالى الدكتور أحمد الطيب quot; إن الأزهر فقد علما من أعلامه وشيخا من شيوخه الأجلاء، الذين قلما يجود الزمان بمثلهم،لأنه كان رجلا متصفا بصفات نادرة، فكان شديد التواضع والتسامح وكان سباقا للخير، وكان مثالا للعالم الملتزم، فكان يباشر كل أعماله بنفسه، فضلا عن كونه عاش زاهدا فى الدنيا، وكان ورعا، ولم يستغل منصبه فى تحقيق أى مأرب شخصيةquot;.
اما دوره رحمه الله فى تعميق الوحدة الوطنية فيشهد عليه الحزن الشديد الذى أصاب الأقباط برحيله من البابا شنودة إلى القبطى البسيط فى قرى صعيد مصر إلى الأقباط فى الخارج الذين نعوه ذاكرين له روحه الوطنية السمحة.
على مستوى الصفات الشخصية كان الشيخ محمد سيد طنطاوى شخصا جم التواضع، مبتسما وبشوشا،هادئ الطباع، واسع الصدر، متسامح،بسيط وزاهد،رقيق المشاعر يشهد على ذلك انخراطه فى نوبة من البكاء عندما زار مسقط رأسه نجع سليم الشرقية فى ابريل 2009. ويكفينا للتدليل على روحه السمحة وتفكيره الإيجابى الإنسانى هو ما طلبه من الدعاة بعدم الدعاء على اليهود والأميركان والاكتفاء فقط بالدعوة لهم بالهداية... إنه موقف يتسم بالشجاعة والنبل حيث دأب هؤلاء على الدعاء على الناس بالخراب واليتم والترمل وغيرها من الألفاظ العدوانية التى لا تتماشى مع مراحم الرب. وموقفه من العمليات الإنتحارية حيث وصف من يقومون بها بأنهم quot;أعداء الإسلامquot; وقال عام 2001 تعليقا على احداث 11 سبنمبر، quot; ليس من الشجاعة بأى شكل قتل شخص برئ،أو قتل آلاف الاشخاص من بينهم اطفال ونساء ورجالquot;.
على المستوى الشخصى تقابلت عام 2004 مع فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوى واجريت معه حوارا لمدة ساعة لقناة الحرة ثم جلست معه بعد الحوار لمدة ساعة أخرى وقد لمست تواضعه وعلمه الغزير وروحه الودودة الهادئة وبابه المفتوح للجميع، وقال لى بعد الحوارquot; أننى أستطيع أن افعل الكثير ومن الإسلام ذاته ولكن المشكلة فى المتطرفين الذين يعوقون عملى لإظهار روح الإسلام السمحةquot;.
بعد وفاة الدكتور محمد سيد طنطاوى تمنيت أن يختار الرئيس واحد من شخصيتين هما وزير الأوقاف الدكتور زقزوق أو رئيس جامعة الأزهر الدكتور الطيب، وجاء قرار الرئيس يوم 19 مارس بتعيين الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب(6 يناير 1946- ) رئيس جامعة الأزهر شيخا للأزهر، وهو اختيار لاقى ارتياحا كبيرا،لأنه أيضا عالم بارز هادئ ومتواضع وينتمى أبا عن جد إلى المدرسة الصوفية فى الزهد والبساطة والتواضع، وقد استمعت إلى كل حواراته بعد تعيينه شيخا للأزهر ووجدت فيها العقلانية والواقعية والبساطة والرغبة الحقيقية لتطوير الأزهر وعدم التضييق على الناس بالفتاوى التى تلاحقهم فى صحوهم ونومهم، كما لمست فى احاديثه الرغبة الحقيقية فى مواصلة حوار الأديان، وخاصة وهو كان يرأس لجنة حوار الأديان تحت رعاية الشيخ طنطاوى،وايضا لمست فيه تأكيده على الأستمرار فى نهج الشيخ طنطاوى الداعم للوحدة الوطنية.
ولعل لمسة شيخ الأزهر الجديد فى عرضه على قداسة البابا شنودة بأن يقوم هو بزيارة الكاتدرائية لمقابلة البابا تعكس روح التواضع والبساطة التى يتحلى بها فضيلته، فقد قال على الملأ للصحفيين أثناء زيارة البابا له، أشفقت على قداسته وقلت ابادر انا بالزيارة ولكن قداسة البابا أصر على المجئ لمشيخة الأزهر.
إنها لمسة طيبة ولكن قداسة الباب يعرف الأصول فذهب هو لتهنئته رغم مرضه.
وداعا ايها الشيخ الجليل محمد سيد طنطاوى العالم والإنسان والوطنى الغيور وتهانينا لشيخ الأزهر الجديد الدكتور أحمد الطيب ونتمنى له التوفيق فى منصبه الجديد وأن يكمل ما بدأه الراحل الكريم ويزيد عليه