أجرى حزب العمال الكردستاني محاولات عديدة، وبذل جهود مضنية، لأجل حل القضية الكردية بالوسائل السلمية والديمقراطية، قبل وبعد اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان، المعتقل منذ أكثر من أحد عشر عاماً في حجرة انفرادية بجزيرة إيمرالي وسط بحر مرمرة. آخر تلك المحاولات كانت في العام الماضي، وبالتحديد في الثالث عشر من شهر نيسان، حين أعلن الحزب عن وقف أحادي الجانب لإطلاق النار. تقيّد الحزب ومقاتلوه بهذا الإعلان، الذي كان يتجدد تباعاً، حتى امتدّ إلى أواخر شهر أيلول من العام نفسه. التزم الحزب الهدوء والسكينة، ولم يشن مقاتلوه أي هجوم عسكري، بل اكتفوا بالدفاع المشروع عن النفس أمام الهجمات العسكرية التي لم يكف الجيش التركي عن شنها ضد المقاتلين الكرد، حتى خلال الفترة التي كان فيها الحزب ملتزماً بإعلانه الأحادي الجانب بوقف القتال؛ لإعطاء فرصة جديدة لحل القضية الكردية عبر التفاوض والحوار، وليس بالاقتتال والحرب، كما كان يُصرّح بذلك قادة الكردستاني طوال فترة تجميد العمليات العسكرية.

جميع محاولات الجانب الكردي، ومبادرات الحل السلمي التي طرحها، باءت بالفشل أمام تعنت الجانب التركي، وإصراره على حسم القضية الكردية، وإنهاء وجود المقاتلين الكرد عن طريق العنف والحرب. لم يقبل المسؤولون الأتراك الدخول في مفاوضات مع العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان. بل على العكس من ذلك، كثّفت الدولة التركية من عملياتها العسكرية ضد المقاتلين الكرد، وشنّت أكبر حملة اعتقالات في البلاد طالت المئات من الساسة ورؤساء البلديات الكرد عن حزب المجتمع الديمقراطي، لايزال ما يقارب من ألف وخمسمائة منهم معتقلين حتى هذه اللحظة. محاولة أخرى من الدولة التركية لعرقلة المساعي السلمية لحل القضية الكردية، كانت بحظر المحكمة الدستورية التركية العليا لحزب المجتمع الديمقراطي، الذي كان يمتلك قاعدة شعبية وجماهيرية واسعة في طول البلاد وعرضها، ودعماً وتأييداُ كبيرين من قبل القوى الديمقراطية، ومنع زعيمه (أحمد ترك) والقيادية البارزة في صفوفه (آيسل توغلوك) وعدد آخر من أعضائه وكوادره من مزاولة النشاط السياسي لمدة خمسة أعوام. ليس هذا فحسب، بل ازدادت، وبالتحديد منذ لحظة وقف العمال الكردستاني للأنشطة العسكرية، حوادث قتل المدنيين الكرد برصاص قوات الجيش والشرطة التركية. كما أن معظم التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان تشير إلى تردّي أوضاع المعتقلين السياسيين الكرد داخل السجون، وتزايد أعداد الأطفال الكرد المعتقلين قياساً إلى الأعوام السابقة من عمر العدالة والتنمية. وهناك أيضاً الضغوطات المستمرة من قبل السلطات التركية على أوجه النشاط الإعلامي الكردي، وإغلاق الصحف الكردية ومنعها من الصدو، آخر صحيفة كردية نالها قرار الحظر كانت صحيفة quot;آزاديا ولاتquot; ولا يزال قرار الحظر سارياً حتى هذه اللحظة، إضافة إلى أحكامٍ بالسجن بحق العديد من العاملين في الصحيفة، على رأسهم رئيس التحرير (أوزان كلينج) الذي حُكم عليه بالسجن لمدة واحد وعشرين عاماً، كما قتل صحفي آخر، يعمل بنفس الصحيفة، وهو quot;متين آتالاشquot; في ظروف غامضة بعيد قرار الإغلاق بفترة قصيرة. الأمثلة على محاولات الطرف التركي استفزاز العمال الكردستاني، وجرّه إلى الحرب، كثيرة لا حصر لها، نذكر منها علاوة على ما سبق؛ تكرار حوادث القتل مجهولة الفاعل، هذه الحوادث التي أسفرت في أعوام التسعينات من القرن الماضي عن مقتل وفقدان ما لا يقل عن سبعة عشر ألفاً من المدنيين الكرد. وكانت السلطات التركية حينها تقيّد تلك الحوادث ضد مجهول، متستّرة بذلك على الفاعلين الحقيقيين الذين كانوا من عناصر الاستخبارات العسكرية التركية (الجيتم)، وأفراد عصابة الحرب الخفية (الأرغنكون)، وهو ما كشف عنه فيما بعد بعض من مدبري ومنفذي جرائم القتل تلك.

حزب العمال الكردستاني، ومن خلال التصريحات التي كان يُدلي بها قادته المتحصنون في جبال قنديل، المعقل الرئيسي لمقاتليه، كان يؤكد دوماً بأن السلطات التركية تلجأ إلى استفزازه بمثل هذه الممارسات؛ لسد المنافذ وعرقلة المحاولات والمبادرات التي يطرحها، والتي كان يقول بأنها من الممكن أن تقود إلى حل سلمي وديمقراطي عادل للقضية الكردية، وأن تشكل أساساً لوضع حد للصراع الدموي بين الطرفين، الممتد على ثلاثة عقود من الزمن؛ إذما تجاوب معها الجانب التركي بجدية وإيجابية. قادة الكردستاني أكدوا أيضاً بأن محاولات تركيا هذه هي لدفعه إلى استئناف القتال، وعودة الطرفين إلى المربع الأول، عبر اندلاع حرب دموية جديدة غير مأمولة النتائج للطرفين، حربٍ ستكون وبالاً على الشعبين الكردي والتركي على السواء، على حسب تعبيرهم.

العمال الكرستاني قال في السابق بأنه قد يضطر إلى تغير استرتيجيته quot;السلمية الراهنةquot; أمام إصرار الدولة التركية على الحرب، ورفضها للبدائل والمبادرات السلمية التي يطرحها لأجل حل القضية الكردية، وإنهاء الصراع والاقتتال بين الجانبين. هذا ما حدث، حيث أعلن الحزب، وعلى لسان (دوران كالكان) التركي الأصل وأحد أبرز قادته، عن دخوله مرحلة جديدة، أسماها بمرحلة quot;الحل أو التصفيةquot;، وهذا يعني بأن الحزب رفع شعار الوجود أو اللاوجود، أي أنه شعار المقاومة والنضال حتى ارتضاء الدولة التركية بحل سلمي وديمقراطي عادل للقضية الكردية.

أكد دوران كالكان، في معرض حديثه لوكالة فرات للأنباء عن المرحلة الجديدة، بأن تغيرات شاملة ستطرأ على سياسات الحزب، وبأن حزبهم التزم استرتيجية جديدة مغايرة تماماً لاستراتيجيتهم في المرحلة السابقة، التي قال عنها بأنها كانت تهدف إلى وضع جميع طاقات الحزب وإمكاناته، السياسية والعسكرية، في سبيل إقناع الدولة التركية بضرورة إيجاد حل للقضية الكردية عبر التفاوض والحوار، لا عن طريق الحرب والعمليات العسكرية. وقال كالكان بأن استرتيجيتهم الجديدة هذه لا تعني البتة العزوف عن المطالبة بحل القضية عبر الطرق السياسية السلمية التي يصرّ عليها أوجلان، مؤكداً بأنهم لا يزالون ملتزمين برؤى وطروحات أوجلان السلمية في الحل. الاستراتيجية الجديدة هذه كما قال عنها كالكان هي quot;التصعيد من وتيرة النضال والتصدي لحملات الحرب التركية، وإنهاء مرحلة المحاولات السلمية الفردية واستراتيجية الصمت في انتظار قبول الطرف التركي الدخول في حوار معنا لأجل خدمة الحلquot;.

بهذه التصريحات يكون العمال الكردستاني قد أعلنها صراحة؛ الحرب بالحرب، والسلم بالسلم. وتأتي هذه التصريحات في الوقت الذي تدل فيه جميع المؤشرات على استعداد الجيش التركي لشن حرب واسعة، موجودة حالياً في نطاق ضيق، ضد المقاتلين الكرد، حيث يكثّف الجيش من تواجده العسكري على الحدود مع العراق من جهة، ومن جهة أخرى تستمر اللقاءات والاجتماعات في أنقرة، على المستويات السياسية والعسكرية، بين أطراف اللجنة الثلاثية (تركيا، العراق، أمريكا) المكلّفة بمحاربة العمال الكردستاني. الدولة التركية تستعد للحرب حسب المعطيات الآنفة الذكر، وحزب العمال الكردستاني يتوعد بالرّد بالمثل. فهل هي الحرب إذاً؟ وهل ستتكرر quot;ملحمة الزابquot;، بهزيمة جديدة للجيش التركي، كما يَعد بذلك قادة الكردستاني؟

[email protected]