في البدء، لابد من الإشارة إلى أنه لاتوجد هناك وظيفة في المجتمع الإسلامي تسمى رجل دين، وذلك لأن علاقة الإنسان بربه مباشرة ولاتحتاج إلى واسطة. نعم يوجد هناك عالم دين ووظيفته تبيان الإحكام الشرعية. أما في المسيحية فتوجد وظيفة لرجل الدين والذي يقوم بمراسم الزواج والإستماع لإعترافات المذنبين والتعميد، وهكذا. أما في التراث الإسلامي، فقد كان الأنبياء والأئمة يعملون وينفقون مما يكسبون. فقد كان نبي الله داوود حدادا ً، والنبي محمد راع للغنم ومن ثم تاجرا ً. وهكذا بالنسبة لأئمة الإسلام، فقد كان الإمام علي يحفر الآبار مقابل الشعير والتمر، وهكذا بقية الصحابة لكل عمله الذي ينفق منه.

بعد تطور الحياة وتعقيدها تحولت المدارس الدينية إلى مؤسسات لها قوانينها وقواعدها الخاصة، ولها منهجها الفكري الخاص بها. تقوم هذه المؤسسات بتخريج الطلبة وعلماء الدين والمبلغين ليبلغوا مبادئ الدين الإسلامي حسب رؤية المؤسسة التي تخرج منها المبلغ. وفي المقابل تقوم هذه المؤسسة بإعالة المبلغين ماديا ً، إضافة إلى مايكسبونه من الناس بعنوان الهدية. وعلى هذا الأساس تحول التبليغ إلى وظيفة يكسب منها المبلغ رزقه ويعتاش على واردها.

من هذه النقطة بدأ الإنفصال بين منظومة القيم الإسلامية والواقع المراد تطبيقه فيها. فذلك كان تحولا ً خطيرا ً جعل قيم الدين الإسلامي، وخصوصا ً الأخلاقية منها، تمر من خلال المؤسسة عموما ً والمبلغ خصوصا ً فيأخذ المال كأجر مقابل تبليغها. بإختصار شديد هي موعضة مقابل شيء من المال. فعالم الدين هو وسيلة لإيصال الأفكار، أما المبلغ فيقوم بنشر ثقافة أخلاقية وقيم ومبادئ وتلك هي المشكلة. إذ لايمكن إيصال قيم أخلاقية ومبادئ من خلال حديث يؤخذ عليه أجر، إذ تفقد تلك القيم والمبادئ قيمتها فتصبح مجرد لقلقة لسان. فهي تصل غالبا ً من خلال الممارسة والتربية والتعليم، وليس الوعض فقط.

ليس هذا فقط، بل تعدى الكسب من التبليغ ليتحول إلى الإنفاق. فيقوم المبلغ، وخصوصا ً من اصحاب الشهرة منهم، بإنفاق المال على المؤسسات الخيرية ودور الإيتمام لدعم الخط الفكري الذي يمثله. وعلى هذا الأساس يرتبط المبلغ بعلاقات قوية مع التجار وأصحاب الأموال والنفوذ ليكونا خطا ً واحدا ً يدعم أحدهما الآخر. أما في العقدين الأخيرين فقد نشأ هناك حلف بين المبلغ الديني والمؤسسة الإعلامية، فتقوم تلك المؤسسة من خلال الصحف والإذاعة والتلفزيون بنشر أفكار المبلغ وخطه الفكري مقابل الإستفادة من شهرة المبلغ للوصول لأكبر قدر ممكن من القراء والمستمعين والمشاهدين. وعلى هذا الأساس يكسب المبلغ الكثير من الأموال من المؤسسة الإعلامية التي تدعمه كأجر عن المحاضرات التي يلقيها أو المقالات التي يكتبها.

لكن هناك بالتأكيد فرق بين المبلغ الشيعي والبلغ السني. فكما يقول الدكتور على الوردي أن المبلغ الشيعي مرتبط بالجماهير بعيدا ً عن السلطة ومؤسساتها. فهو يستمد قوته من الجماهير فيقوم بمغازلة عواطف تلك الجماهير من خلال محاضراته. فيسكت عن الكثير ويتخلى عن وظيفة النقد للمجتمع بعاداته وتقاليديه والثقافة السائدة فيه. فيوجه سهامه نحو السلطة الحاكمة فينتقدها نقدا ً لاذعا ً. أما المبلغ السني فيرتبط بالدولة ومؤسساتها بعيدا ً عن الجماهير. فيسكت عما تقوم به السلطة الحاكمة والفساد فيها، بل يبرر في أحيان كثيرة ماتقوم به تلك السلطة. فلايهتم كثيرا ً بما تريد الجماهير بقدر كسبها وضمها لجانب السلطة.

لكن، وفي الآونة الأخيرة، جرى هناك تحول خطير لذلك النمط الكلاسيكي للكثير من المبلغين الشيعة والسنة على حد سواء. فقد تضخم المبلغ الشيعي من الحجم ليصبح مستقلا ً بذاته منفصلا ً عن المؤسسة التي تدعمه ليكون مؤسسة مستقلة بذاتها. من أبرز معالم هذه المؤسسة هو تحالفها مع السلطة الحاكمة ليأخذ نفس الدور للمبلغ السني. فيقوم بتبرير ماتقوم به السلطة ويسكت عن فسادها، بل تجاوز الحد ليمسك بيدية مؤسسات الدولة التنفيذية، كما يحدث في إيران والعراق.

أما المبلغ السني فأنتقل ليأخذ دور المبلغ الشيعي بمعارضة الدولة والخروج عن المؤسسة الدينية الرسمية التي تدعمها الدولة. فأنفصل عن تلك المؤسسة ليلتحق بالجماعات المعارضة للدولة فيقوم بتغذيتها بالأفكار المتطرفة التي تحتاجها لتصل غالبا ً حد العنف ضد الدولة ومؤسساتها وضد المجتمع بمؤسساته المدنية. وهذا مانراه واضحا ً في أغلب الدول العربية. ليكون قريبا ً من الجماهير التي تشعر بالقمع والإضظهاد من حكوماتها فيأخذ الدعم المادي منها من خلال الجمعيات الخيرية بإسم الجهاد.


[email protected]