المسألة الكردية

كنا تعرضنا لإشكاليات الفساد والطائفية والإسلام السياسي في سورية، في هذا القسم سنتعرض للإشكالية الكوردية. وهنا لابد أن نميز بين تعاطي المعارضة السورية ككل مع هذه الإشكالية، وبين تعاطي النظام، وهذا ما سنحاول أن نتعرض له في هذا الجزء.

المسألة الكوردية، لم يتوان النظام عن التعامل معها، كما يتعامل مع بقية المجتمع السوري، بمكوناته ومستوياته ومشاكله. عندما يكون لدينا نظاما كالنظام السوري، فهذا يعني أنه هو من يحدد الحقوق والواجبات، سواء على المستويات الفردية أم الجماعية. بالتالي لا يمكن فهم تعامله مع المسألة الكوردية إلا انطلاقا من هذا المنظور، والذي يشتق من أن أولوية النظام هي الحفاظ على قوة السلطة واستمرارها ومركزيتها، قولا وفعلا.

إن تفسخ حالة الانتماء الجمعي لوطن واحد، يطال الجميع بدون استثناء، عدا الكتلة الشعبية التي وجدت أن النظام يعبر عن مصالحها، وهو الرابط الفعلي في انتماءاتها الجمعية، وهذه الكتلة الشعبية، تشكل الطيف الأوسع أو الدائرة الثانية المحيطة بتمازج خاص مع الدائرة الأولى ذات الولاء الطائفي. والشعب الكردي في سورية، مثله مثل بقية الشعب السوري، لدى النظام فيه أيضا كتلة شعبية بفاعيلها تجد مصلحتها مع النظام.

إن نظام الأسد الراحل قد اعترف بحقوق الأكراد في العراق وتركيا، ودعم كل الأحزاب الكوردية في كلا البلدين، فكانت تجربة حزب العمال الكوردستاني، الذي كان ظهيرا شعبيا للنظام في سورية، وهذا لا يعني تشكيكا بنوايا الحزب وأعضاءه وتجربته، ولكن تحالفاته واستراتيجيته السياسية تطلبت أن يكون النظام سندا له في معركته مع تركيا، وأن يكون هو سندا للنظام في الساحة الكوردية في سورية، ولهذا كانت يد الحزب مطلقة في التعبئة والتنظيم لمواطنين سوريين أكراد، ولازالت كل المؤشرات تشير على أن هذا الحزب بفرعه السوري المشكل حديثا، يحوز على أكبر شعبية بين الأحزاب الكوردية السورية، والمتواجدة تاريخيا في هذه الساحة. الحزب كان يتدخل لكبح أية معارضة للنظام داخل الأوساط الكوردية، والنظام يقدم للحزب كل الدعم اللوجستي. لدرجة أن الحزب كان يأخذ ضريبة لنضاله ضد تركيا من مواطنين أكراد سوريين.
استمرت هذه الحالة حتى خروج عبد الله أوجلان من سورية واعتقاله في تركيا، تحت تهديد تركي باجتياح شمال سورية، اضطر معه الرئيس الراحل إلى ترحيل أوجلان من سورية ومن لبنان أيضا.

قبل 1984 تاريخ انتشار حزب العمال الكوردي في سورية، كانت الأحزاب اليسارية السورية، بما فيها أحزاب جبهة النظام- الحزب الشيوعي السوري بكل انشقاقاته، يستوعب مناضليه الأكراد السوريين.

استطاع القمع للمعارضة السورية وأفلاس الحزب الشيوعي بفروعه الجبهوية، ودخول حزب العمال على الخط، إلى توجه الشباب الكورد السوريين إلى التنظيمات الكوردية القومية، وجاءت تجربة كوردستان العراق لتشكل رافعة أضافية، لقيام مجموعة من الأحزاب على أساس قومي كوردي. والنظام لم يكن يكتفي بمراقبة هذه التغيرات، ولكنه كان يتفاعل معها استخباراتيا بشكل حثيث من جهة، وقمعي انتقائي من جهة أخرى، إضافة بالطبع لتقديم نوع من التسهيلات كغض الطرف مثلا عن نشاط بعض الأحزاب، وقبول مرشحين لمجلس الشعب من هذه الأحزاب، ثم وهذا أخطر ما في الأمر، انه لعب على وتر الاستفادة من تصعيد الخطاب القومي الكوردي ذو المنحى الشوفيني عند بعض الأحزاب، وجعله تيمة يهدد فيها بقية الشارع السوري. كما أنه سمح بفتح المجال أمامquot; المزايدات اللفظية في الخطاب الكورديquot; كنا في حل أشتراكي للمسألة السورية وللمنطقة ككل، ثم حلا ديمقراطيا حتى وصلنا إلى حلا قوميا منفردا للمسألة الكوردية في سورية. والنظام لم يكن اعمى عما يجري، بل العكس هو الصحيح كان متابعا بشكل مثابر لما يجري، يغض الطرف هنا، ويقمع هناك، وعلاقة جيدة مع أحزاب كوردستان العراق، ولاعب ماهر في التعاطي مع حزب العمال والدولة التركية معا. كل ذلك دون أن يقدم على حل ولو مسألة واحدة على هذا الصعيد وهي البت بجنسية أكثر من 300 ألف كوردي يعيشون بلا جنسية في سورية، بغض النظر سواء كانت أرضهم التاريخية أم وافدين، فإن عقود من الزمن كفيلة بأن يتمتعوا بحقوق الجنسية، مع ذلك النظام لازال كما هو على هذا الصعيد. اعترف السيد الرئيس بشار الأسد بأن الكورد السوريين هم ثاني قومية في البلاد ودون أن يترتب على هذا الاعتراف أي إجراء من أي نوع كان، وعندما اندلعت أحداث 2004 آذار تعامل معها النظام بالقمع، وبتوسيط بعضا من الأحزاب الكوردية وغير الكوردية المعارضة! لوقف حركة الناس بالشارع، حتى وصلنا الآن إلى نتيجة مفادها، مزيدا من تحلل شعور المواطن الكوردي بالانتماء لسورية، وأصبحت الإشكالية الكوردية تشبه إلى حد كبير الإشكالية الطائفية، أي حول الكورد إلى طائفة، وهنا غير مهم في هذا السياق ما تقوله الأحزاب الكوردية، المهم كيف تعامل النظام مع هذا الموضوع، وما الذي يخدمه ويخدم سلطته في النهاية.

الأكراد السوريون بتعبيراتهم السياسية الآن، خلق لديهم شعورا جمعيا بأنquot; سورية عبارة عن وطن مؤقت، وهذا بالضبط ما جعلهم يشبهون في ذلك الأحزاب القومية العربية والإسلامية السورية، وتداخل ذلك مع تطييف المسألة الكوردية. هذا الشعور الجمعي، لم يكن موجودا في السابق وإن كانت الأحزاب الكوردية تطرح حلا قوميا لمسألتها، لكن سورية لم تكن وطنا مؤقتا كما هي عليه الآن، وإن كانت هنالك عوامل دولية وإقليمية ساعدت على ذلك، ولكن المسألة الأساس يتحمل مسؤوليتها النظام، في تردي الإحساس بالمواطنة السورية إلى الحضيض، وهذا ينطبق عموما على المجتمع السوري، لكنه أوضح في الخطاب والممارسة الكوردية، لأن للمسألة وجها قوميا واضحا.
لهذا لم يعد ممكنا الفصل في سورية بين الإشكاليات الثلاث الطائفية والإسلام السياسي والمسألة الكوردية.

إنها مأزق سورية الذي يعيد النظام إنتاجه دوما وسيبقى.
بالطبع هذا لا يمنع في لحظة سياسية ما، ووفقا لموازين قوى محددة، ان يقوم النظام بخطوات تصالحية نسبية ومحدودة سواء مع الإسلام السياسي المعارض او مع الحركة الكوردية، ولكنها خطوات لن تحل، ولن تكون مقدمة لحل ديمقراطي حقيقي للوطن السوري ولكل مكوناته.

وإن كان للمسألة الكوردية وجهينquot; قومي ومواطنيquot; في الوطن السوري، لكن هذا لايمنعنا من رؤية ويجب أن نرى كيف تعاطى النظام مع هذه المسألة، وهذا ما أحببت أن أكتب فيه هنا. وهذه الكتابة لا علاقة لها برؤيتي لحل المسألة الكوردية في سورية، ولا برؤية المعارضة السورية ككل.

ملاحظة أخيرةquot; إذا كان النظام لا يؤمن بحقوق المواطنة لأي فرد في المجتمع السوري، مطلق فرد، لأن منطق الولاء وعدم الولاء وما بينهما من هامشية وحيادية وقطيعية، هو منطق إطلاقي أيضا يشمل كل السوريين، فهذه يجب ألا تغيب عن الكوردي السياسي.