منذ دخولها حلف الشمال الاطلسي، مطلع الخمسينات، وعلاقات تركيا بالولايات المتّحدة، مميّزة. وأعطت الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو السوفياتيّة، زخماً لهذه العلاقات. وتجاوبت تركيا مع المطالب الامريكيّة، لجهة الاشتراك في الحرب الكوريّة، وتأسيس حلف بغداد quot;السنتوquot;، منتصف الخمسينات، ومحاصرة ومحاربة المدّ الشيوعي في تركيا والشرق الاوسط، في الستينات والسبعينات. دون أن ننسى، إن تركيا الجمهوريّة، ومنذ تأسيسها سنة 1923، وهي تسعى نحو الغربنة، وتبتغي كسب رضى ودعم الغرب، الذي كانت على أيديه، نهاية دولة الخلافة. وربما اعتراف تركيا بالكيان العبري سنة 1949، كان أولى الخطوات الاستراتجيّة في هذا المسعى، من باب طمأنة الغرب، على أن تركيا خلعت جلدها الشرقي الإسلامي، إلى الأبد.

وبعد اندلاع الثورة الخمينيّة في ايران، سنة 1979، وتوطيدها اركان حكمها سنة 1980، ونظراً لتعاظم المدّ الكردي اليساري، والمدّ اليساري التركي في تركيا، ما جعل واشنطن تخشى ان تفقد المخفر التركي أيضاً، بعد فقدانها للمخفر الايراني (نظام الشاه). لذا، دعمت وساندت الولايات المتّحدة انقلاب 12 أيلول سنة 1980، كإجراء استباقي، منعاً لتسّرب التجربة الخمينيّة، بصبغة يساريّة، الى تركيا. وبالتالي، بقيت تركيا، ملتزمة بالادوار المرسومة لها أمريكيّاً، منذ مطلع الخمسينات ولغاية سنة 2001. وتحديداً، بعد احداث 11 سبتمبر. إذ بدأت واشنطن تفكّر بإناطة مهام جديدة لأنقرة، في حربها على الارهاب. وذلك بجعلها أنموذج للاسلام السياسي المعتدل، في مواجهة الاسلام السياسي الراديكالي، الذي كان بضاعة أمريكيّة، وما ان استنفدت صلاحيّتها، حتّى انقلبت على صانعيها. وعليه، لم يكد يمضِ سنة على احداث 11 سبتمر الارهابيّة، حتّى استلم حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، الحكمَ في تركيا سنة 2002!. ورويداً، يبدو أن خلطة الاسلام السياسي المعتدل، بزعامة حزب العدالة والتنمية، بدأت هي أيضاً توشك على الخروج عن السكّة والوجهة المحددة لها، والدور المناط بها أمريكيّاً. ولم تعد دوائر صنع القرار في الغرب، وفي واشنطن تحديداً، تخفي قلقلها من الانزلاق التركي نحو إيران، وملاحقها العربيَّة من تيّارت وأحزاب كـquot;حماسquot;، quot;حزب اللهquot;، quot;الجهاد الاسلاميquot;، ناهيكم عن تنامي الاسلام السياسي المتطرّف في تركيا، وتنامي مشاعر الكراهية والعداء لامريكا واسرائيل والغرب عموماً، بين الاتراك، تحت عباءة الاسلام السياسي المعتدل في تركيا!.

قبل فترة، نقلت صحيفة quot;طرفquot; التركيّة، عن مصادر إعلاميّة إيطاليّة، إن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، يسعى الى تمرير أسلحة إيرانيّة ثقيلة ومتطوّرة، عبر الاراضي التركيّة، إلى quot;حزب اللهquot; اللبناني. ومع تنامي منسوب معاداة الاتراك لامريكا واسرائيل، وتقارب تركيا من إيران، وquot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot;، كما أسلفنا، لا يغدو هذا الخبر من باب التخضيم أو التهويل أو المبالغة. ويستحقّ المزيد من التحليل والتدقيق والغوص في تبعاته، في حال كان صحيحاً، والتحسّب والاحتراز له، بخاصة من جانب الدول العربيّة، التي وضعت تركيا عينيها على استلاب أدوارها الاقليميّة، كمصر والسعوديّة والاردن.

وتقاطعاً مع الخبر السالف، نشرت الفاينايشل تايمز البريطانيّة، ما قيل أنها تفاصيل ما دار بين أوباما واردوغان في اجتماع الدول العشرين في تورينتو. وسلّطت الضوء على التحذيرات الامريكيّة في ضرورة مراجعة تركيا لعلاقاتها مع ايران واسرائيل. وبحسب الفاينايشل تايمز، إن أوباما قال لاردوغان: quot;إذا لم تنجح تركيا في تغيير سياساتها من اسرائيل، والابتعاد عن ايران، فأنّ حظّ انقرة في شراء الاسلحة من واشنطن يزداد ضألةquot;. وإشارت الفينايشل تايمز إلى أهميّة تحذيرات الرئيس الامريكي لاردوغان، لكون تركيا تريد شراء طائرات قاذفة للقنابل، بدون طيّار، من أمريكا. وان تركيا تريد استخدام هذه الطائرات ضدّ العمال الكردستاني، بعد انسحاب الجيش الامريكي من العراق.
والحال هذه، وإذا كانت تركيا وحكومتها، تريد تمرير الاسلحة لـquot;حزب اللهquot; لمحاربة اسرائيل، وتريد شراء اسلحة من امريكا لمحاربة حزب العمال الكردستاني، (والاخير، اعلن في 13 من الشهر الجاري عن وقف لاطلاق النار من جانب واحد، هو السابع من نوعه، كبادرة حسن نيّة، ولإفساح المجال امام الحلول السلميّة للقضيّة الكرديّة في تركيا)، السؤال المطروح هنا: إذا كانت واشنطن وتل أبيب، وحلف الشمال الاطلسي، ومنذ اعلان الكردستاني كفاحه المسلّح ضدّ الدولة التركيّة في 15/8/1984 وحتّى الآن، إلى جانب أنقرة في محاربة الكردستاني، فهل تحسب تركيا ضريبة قربها من ايران ودعمها لحزب الله وحماس والجهاد الاسلامي!؟. وماذا لو سحبت واشنطن وتل أبيب دعميهما العسكري واللوجستني والاستخباري والسياسي لأنقرة في حربها على الكردستاني، فما عسى تركيا فعالة؟. والسؤال الآخر، في حال لو عرضت تل أبيب وواشنطن تقديم الدعم للكردستاني، فهل سيقبل الاخير، هل سيقبل بذلك!؟.

غنيٌّ عن البيان ان الجيش التركي، ومنذ اكثر من نصف قرن، وهو يعتمد بشكل كامل في تسليحه وتدريباته على الجيش الامريكي والاسرائيلي. وإذا كانت تهديدات _ تحذيرات اوباما الأخيرة لاردوغان، متعلّقة بوقف بيع الاسلحة لانقرة، بالتأكيد، أن توتّر العلاقات الامريكيّة _ التركيّة، (المتأثّرة جدّاً بالعلاقات التركيّة _ الاسرائيليّة) لن تقتصر على ذلك وحسب، وبل ستتدّاعاها الى مستويات أخرى، أقلّها شأناً، إثارة الملفّ الارمني، والكردي، وملفّات عديدة في مواجهة تركيا. إذ أن الأخيرة، قد انتابها quot;جنون العظمةquot;، بعد التهليل والترحيب التي حظيت به في العالمين العربي والإسلامي، ما جعلها تتجاوز الحدود المرسوم لدورها، أمريكيّاً، وحتّى إسرائيليّاً. وما ليس بخافٍ، إن الإعلام التركي، بدأ يناقش بشكل جدّي، تبعات سياسات حزب العدالة والتنمية، وتأثيراتها السلبيّة على علاقات انقرة بواشنطن وتل أبيب. وحتّى لو لم يكن هذا ظاهريَّاً، فأن السياسات التركيّة، وبغية استقطاب الشارع العربي والاسلامي، كان يغمز من ساقية التطاول على الدور المصري _ السعودي _ الاردني، في الشرق الاوسط، وفي الملفّ الفلسطيني على وجه الخصوص، ما كان يخلق انزعاجاً وارتياباً، خفيّاً لدى عواصم هذه الدول. بمعنى، إن سياسة quot;تصفير المشاكل الخارجيّةquot;، التي طرحها، رئيس الدبلوماسيّة التركيّة، أحمد داوود أوغلو، (وكان لكاتب السطور، مقالات، قبل أشهر، تشير إلى أنّ داوود أوغلو يحضّر نفسه لأن يكون زعيم العدالة والتنمية، بعد أن يرشّح نفسه لرئاسة الجمهوريّة) شابها الكثير من العلل، وشارفت على منزلقات خطرة، تهدد مستقبل علاقات تركيا الاستراتيجيّة، من أهم وأبرز حلفائها في العالم والمنطقة. وإذا لم تجرِ أنقرة، مراجعة نقديّة جادّة لسياساتها، ربما تكون الأكلاف والآثار والعوائد السلبيّة أكثر وأكبر وأعمق، مما تتوُّقعه الحكومة التركيَّة!.

كاتب في الشؤون الكرديّة والتركيّة
[email protected]