لست أنكر أن لحظات الفراغ الأمني التي شهدتها مصر مساء الأمس جعلتني أزداد أقتناعاً بأن الدكتاتورية بكل استبدادها وسلبياتها ومساوئها أفضل بكثير من الفلتان الذي يمكن أن يتسبب به نظام ضعف. كانت مشاهد قاسية جداً تلك التي قام فيها غوغاء بعمليات إحراق وسلب ونهب للممتلكات العامة والخاصة. تملكني القلق على مصر وشعبها ومستقبلها عندما راح الأوغاد يستغلون ثورة المصريين الشريفة المطالبة بالحرية. تساءلت عن انتماءات وجنسيات من قاموا بتلك الأعمال البذيئة. فمن يحرق بلده خائن وليس وطنياً. تساءلت عما إذا كانوا أناساً يمتلكون ضمائر حية. استمعت لبعض من برروا عمليات النهب، واستمعت لمن تبرأوا من مسئوليتهم عن الفوضى، وتمنيت لو لم أكن موجوداً على سطح البسيطة أو لو كنت غائباً عن الوعي.

لعبت السياسة لعبتها القذرة في ما حدث بمصر بالأمس عندما قام النظام الحاكم والإخوان المسلمون بدور البطولة في إفساد المظاهرات. فالنظام الحاكم الذي يتشبث بالسلطة حتى الرمق الأخير تصدى بعنف للمتظاهرين، بينما الإخوان المسلمون الذين يحلمون بالسلطة منذ عشرينيات القرن الماضي ارتكبوا جريمة عظمى حين استخدموا من جديد العنف والتخريب اللذين يمتليء تاريخهم بهما لإحداث فوضى عارمة في الشارع المصري بغرض استنفار المصريين ودق المسامير الأخيرة في نعش النظام. وكم كان غريباً عدم تدخل أجهزة الأمن أو الجيش لوقف اعمال الإحراق والنهب والسرقة رغم فرض حظر التجوال، حتى أن الكثيرين شكّوا في أن النظام سمح أو ربما جند شباباً للقيام بتلك الأعمال لتبرير رفضه للمظاهرات وإلهاء المصريين عن مطالبهم.

كنت وضعت كل آمالي على مظاهرات القوى الوطنية الفاعلة لاستعادة مصر من أيدي أولئك الذين نصّبوا أنفسهم ملوكاً أبديين على مصر. تمنيت لو شهدت مصر بزوغ فجر جديد يشهد منح الإنسان حقوقه وكرامته. تمنيت لو أن المظاهرات أثمرت عن نظام ديمقراطي نظيف يعطي للإنسان المصري الأولوية ويضع هموم الفقراء الذين يشكلون الغالبية العظمى من المصريين على رأس اهتماماته. تمنيت لو أن حكومة يشكلها مدنيون عاقلون شرفاء جاءت لتقود مصر إلى طريق العلمانية والتنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والوئام الاجتماعي والسلام الإقليمي والشراكة الدولية.

إلا أن آمالي العريضة لم تمنع مخاوفي الكبيرة من استغلال جماعات الإسلام السياسي للمظاهرات لتحقيق أغراضها وطموحاتها. كنت أخشى كثيراً لو أن المظاهرات أفضت عن نظام يقوده الإخوان المسلمون السيئون لأنه لو كان لي الاختيار بين نظام مدني يقوده دكتاتور كالنظام المصري ونظام ديني تمييزي يقوده الإخوان المتطرفون لاخترت من دون جدل أو نقاش النظام الدكتاتوري لأن نظام يقوده الإخوان سيجمع بكل تأكيد بين مساويء الدكتاتورية ومساويء الحكومة الدينية التي تلغي القواني الوضعية وتجعل من القادة حكاماً بأمر الله وتميز بين المواطنين على أسس دينية وعرقية وجنسية.

لم تثمر ثورة المصريين بالأمس عن إسقاط النظام الحاكم. لم تتحقق كل الأحلام ولا الطموحات، ولكن هذا لا يمنع أن أموراً كثيرة مهمة تحققت. سيبقى الثامن والعشرون من يناير من عام ألفين وأحد عشر نقطة فاصلة في تاريخ مصر، نقطة سيشار إلي ما قبلها وما بعدها، نقطة بداية لمصر المختلفة عن تلك التي عرفناها طوال الأعوام الستين الماضية. سينظر المؤرخون إلى الثامن والعشرين من يناير على أنه شهد:

أولاً: انتصار إرادة الشعب المصري على إرادة الحاكم الدكتاتور

ثانياً: مساندة الجيش لمطالب الشعب و التي تجسدت في رفض قادة الجيش تنفيذ أوامر رئيس النظام الحاكم بفرض حظر التجوال

ثالثاً: قيام الشباب المصري عن وعي بالمطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية

رابعاً: تحطم حاجز خوف المصريين من بطش النظام وأدواته الأمنية

خامساً: بداية النهاية لحكم الفرد الواحد وعصر القمع والكبت

سادساً: عدم اعتماد المصريين على الخطاب الديني في المطالبة بحقوقهم السياسية

سابعاً: توقف المجتمع الدولي عن اعتبار النظام الحاكم عنصر الاستقرار المضمون في مصر

لم تفشل ثورة الحرية في مصر رغم أنها لم تحقق هدفها الأول وهو إزاحة النظام الحاكم عن عرشه. ولم يسقط المصريون في اختبار الثورة رغم الأحداث المؤسفة التي قام بها الإخوان المسلمون والرعاع الذين خربوا ودمروا ونهبوا وسلبوا. لم تنهار أحلام المصريين بالديمقراطية والحرية وفرص العمل ورغيف الخبز لأن ما تحقق لن يسمح بعودة بمصر إلى ما قبل الثامن والعشرين من يناير الجاري. ولكن من المهم، إذا اختار المصريون الاستمرار في نضالهم، أن يعوا دروس الثامن والعشرين من يناير. من المهم أن يعزلوا أولاً الرعاع والاستغلاليين والإخوان المخربين.

المثير أن النظام الحاكم ظل يراهن على أنه بمأمن من ثورة المصريين، وخاب ظنه. لم يكن النظام الحاكم يدري أن المصريين الذين سئموا الظلم والكبت والقمع سينتفضون ضده. اعتقد النظام خاظئاً أن المتطرفين الإسلاميين هم القوة الأكبر في الشارع المصري، ولتجنب غضبهم راح يغازلهم ويتحالف معهم ضد مصر والمصريين. وكم كان مدهشاً أن يتجرع رموز النظام كأس المظاهرات المر التي كان سمح عبثاً وظلماً للأقباط بتجرعه مرات ومرات حين قبل بمظاهرات السلفين الحاشدة التي هددت وسبت وأهانت المسيحيين وقياداتهم الدينية. سمح النطام الحاكم للسلفيين بإهانة صور الزعيم الديني للأقباط، وبالأمس اقتصت العدالة من النظام الذي أزال المصريون صور رئيسه من الشوارع وأهانوها..

من المبكر معرفة ما إذا كان المصريون سيعطون النظام الحاكم فرصة جديدة بقبول مبادرته العرجاء التي أعلن عنها بالأمس والتي تمت بموجبها إقالة الحكومة. لم يطالب المصريون فقط بعزل الحكومة، المصريون نادوا بأعلى الصوت مطالبين باستقالة الرئيس مبارك ورحيل النظام الحاكم بأكمله. لست أتوقع أن يقبل المصريون طويلاً ببقاء النظام. تماماً كما فعل الشعب التونسي مع دكتاتورهم السابق زين العابدين بن علي. وفي نفس الوقت لست أتوقع أن يتخلى مبارك عن السلطة بسهولة. فمبارك الذي يري كيف يطالب التونسيون بمحاكمة زين العابدين بن علي وكيف أصدر الأنتربول الدولي مذكرة اعتقال بحقه يخشى بكل تأكيد نفس المصير. لذا أتوقع أن يقاتل النظام الحاكم حتى النفس الأخير مهما كانت الثمن.

[email protected]