يكفى ثورة 25 يناير فخرا أن من نتائجها أنه تم وضع وعلى الهواء مباشرة إثنين من قمة السلطة فى مصر الآن وعضوين من أهم أعضاء المجلس العسكرى جلوسا للإستجواب أمام منى الشاذلى وإبراهيم عيسى فى البرنامج المميز لمنى الشاذلى (العاشرة مساء). فقد جلس اللواء محمد العصار واللواء محمود حجازى بالزى العسكرى أمامها لمدة تزيد عن ساعتين ونصف يستمعان إلى أسئلة (فى بعض الأحيان رزلة وهجومية وإستظرافية من إبراهيم عيسى) وإستمعا أيضا إلى بعض رسائل المشاهدين الهجومية مثل (يسقط المشير)، ولقد أبدى كل من محمد العصار ومحمود حجازى صبرا يحسدا عليه بالنسبة للعسكريين (وخاصة إذا كانا فى قمة السلطة).
وقد لفت نظرى بعد هذا اللقاء الطويل والمميز عدة ملاحظات:
أولا: لقد تقدم اللواءان بالتعازى لضحايا مذبحة ماسبيرو، وأنكرا فى نفس الوقت أن يكون الجيش قد أطلق النار على المتظاهرين المصريين المسيحيين، وقالا أن المتظاهرين أيضا لم يطلقوا النار على الجيش، وأن هناك عناصر أخرى فعلت ذلك لأنها ترغب فى إحداث شرخ بين الجيش والشعب، وترغب فى إحداث فتنة طائفية، ولقد نجحت تلك العناصر quot;المندسةquot; فى ضرب عصفورين بحجر واحد، ولكنهما لم يقرا أيضا بأن المجلس العسكرى هو المسئول عن تأمين المواطنين من أعداء الداخل أو أعداء الخارج. وكان هذا قصورا كبيرا من المجلس العسكري، والذى كان عليه أن يعترف على الأقل بتقصيره فى حماية المواطنين، ناهيك عن قتله للمواطنين وهذا ما كان واضحا فى كثير من الفيديوهات التى بثت على الإنترنت، ولم يلمحا حتى إلى الأيدى الخفية التى نجحت فى أرتكاب تلك المذبحة مادام الجيش لم يرتكبها على حد قولهما، ولكنهما أشارا إلى أن هناك لجنة تحقيق قضائية تحقق فى الموضوع وسوف تعلن النتائج قريبا، وإن كان هناك مخطئ من الجيش فسوف يتم محاسبته. والحقيقة أن دفاعهما عن الجيش فى مذبحة ماسبيرو لم يقنعنى كثيرا، وخاصة أن عدد الضحايا لم يكن واحد أو أثنين ولكن 25 ضحية، ولا نملك حاليا إلا أن ننتظر نتيجة التحقيق، ولكن إذا لم يتم هذا التحقيق سريعا ونعرف من وراء قتل كل هؤلاء الضحايا فإن ثقتنا فى حكم المجلس العسكرى فى الفترة الإنتقالية تكون قد إهتزت كثيرا.
ثانيا: وضح الفرق تماما بين الناس النظريين والناس العمليين، إبراهيم عيسى صحفى يعيش من خلال كتاباته ولم يتول أبدا أى منصب سياسى أو تنفيذى فهو ينظر للعالم بمنظار نظرى بحت وأحيانا منظار مثالى، مثله فى هذا مثل علاء الأسوانى الذى يعتقد أنه قائد ثورة 25 يناير منذ هجومه على أحمد شفيق فى لقاء تليفزيونى شهير فى الأيام الأولى للثورة (هذا الهجوم الذى وصل لمرحلة التجريح)، والذى أدى إلى إستقالة أحمد شفيق من رئاسة الوزراء (وكان فى تقديرى أفضل من يصلح لتولى هذا المنصب فى تلك المرحلة الحرجة)، وخرج علاء الأسوانى بطلا من هذا اللقاء، وأصبح يتصرف وكأنه سعد زغلول فى ثورة 1919 أو عبد الناصر فى ثورة 1952!! وقد أثبت لى كل من إبراهيم عيسى وعلاء الأسوانى المثل المصرى القائل: quot;إللى على البر .. عوامquot;... فهما يرددان كل الشعارات الثورية والنظرية والرومانسية أيضا، بينما المجلس العسكرى يدير الآن بلدا يكاد يكون على حافة الإفلاس الإقتصادى وعلى شفا حرب طائفية وعلى شفا ثورة جياع، ومطالب فئوية وإضرابات لا تنتهى، ولا يريد إستخدام أساليب قمعية لقمع كل مظاهر الفوضى . وقد تحدث بإسهاب فى هذا اللواء محمود حجازي فى لقاء العاشرة مساء عندما كرر أكثر من مرة ضرورة أن يعود الناس لأعمالهم ويؤجلوا مطالبهم المشروعة لما بعد الفترة الإنتقالية، وإذا هدأت البلد فسوف يعود المستثمرون وتعود السياحة وتبدأ العجلة فى الدوران مرة أخرى، وعندها سوف يكون لدى الحكومة موارد تستطيع تلبية مطالب الشعب، ولكن الأبطال على الورق (مثل إبراهيم عيسى وعلاء الأسوانى) يصرخون قائلين:quot;لا .. لا .. هذه ثورة .. والثورة تعنى أنه يجب إتخاذ قرارات ثورية وغير تقليديةquot;، وهذا يعكس سذاجة سياسية كبرى وكأن المجلس العسكرى سوف يضاعف مرتبات الناس فجأة بواسطة قرارت ثورية، ويعطى لكل شاب quot;ثورىquot; شقة ليتزوج فيها بواسطة قرارات ثورية!!
ثالثا: وضح لى بما لا يدع مجال للشك من هذا اللقاء التليفزيونى بأن هناك العديد من الثوار ومن يعتبرون أنفسهم من quot;قادة الثوارquot; أمثال إبراهيم عيسى وعلاء الأسوانى يرغبون فى هدم كل شئ لأنها ثورة، فبعد أن نجحت الثورة فى هدم جهاز الشرطة، أخذ الثوار يصرخون ويشتكون من إنتشار الفوضى، وكأنه يمكن تحقيق الأمن بدون شرطة، والآن يريدون التحول لهدم المجلس العسكرى لأنه مجلس غير ثوري ولا يصدر قرارت ثورية ، وفى نفس الوقت المجلس العسكرى وبهدوء يحاول إعادة عجلة الإنتاج وإعادة بناء نظام الدولة، وقد كرر كل من اللواء العصار واللواء حجازى من خطورة سقوط الدولة المصرية، ولكن إبراهيم عيسى وعلاء الأسوانى يبدو أنهم لايهتمون كثيرا لمسألة سقوط الدولة المصرية إما لأنهم لا يصدقون موضوع سقوط الدولة (ويبدو أنهم لم يسمعوا عن السودان والصومال وأفغانستان وربما باكستان وغيرها من الدول التى سقطت)، أو أن سقوط الدولة المصرية لا يعنيهم كثيرا لأنهم سوف يبنون دولة جديدة، وللعلم فمؤخرا فقط تم تخفيض الثقة الإئتمانية فى الدولة المصرية، وهذا يعنى أن مصر لن تستطيع الحصول على قروض (مثل السابق) لأغراض التنمية أو حتى لشراء القمح. وهذا أحد علامات بداية السقوط، ولكنك لاتسمع أى أحد يتكلم عن هذا أبدا، وكان التخفيض الإئتمانى تم لبلد آخر.
رابعا: عندما هاجم إبراهيم عيسى الجيش قائلا: quot;إذا لم تكن هناك أوامر لإطلاق النار على المتظاهرين.. يبقى الجيش حما الثورة إزاىquot; (وبما معناه : يبقى إيه أفضال الجيش على الثورة؟؟) ولقد شرح الواء حجازى بأنه عندما رأى الشعب أول دبابة فى ميدان التحرير قفز الناس فوقها فرحا وكان هذا بداية إعلان نجاح الثورة، وقال أيضا أن الجيش فى البيان رقم (1) يوم أول فبراير (10 أيام قبل إستقالة مبارك) أعلن أنه لم ولن يطلق النار على المتظاهرين وأنه يؤيد المطالب المشروعة للمتظاهرين، وعندها وضح أن الجيش قد إنحاز لصف الشعب والثورة حتى قبل تخلى مبارك عن الحكم، وقال اللواء العصار نقطة هامة جدا أن الجيش لم ينقلب على الشرعية، وأنه إنتظر حتى قام مبارك بالإستقالة ونقل سلطته للمجلس العسكرى. وتوقف اللواءان عند هذا الحد ولم يقولا لإبراهيم عيسى :quot;إنظر حولكquot; لترى ماذا فعل الجيش الليبى والجيش اليمنى والجيش السورى بشعوبهم وبالمتظاهرين.
خامسا: هناك شبه إجماع على أن حكومة الدكتور شرف هى حكومة ضعيفة وحكومة ردود أفعال، وأنا شخصيا أوافق على هذا وأرثى لحال الرجل الطيب الدكتور عصام شرف، ولم ينف اللواءان ضعف الحكومة، وأنا أعذرهما فى هذا لأنهما إذا أقرا بضعف الحكومة فإن هذا يعنى أن على الحكومة أن تستقيل، كما أن هناك صعوبة كبيرة فى إقناع أى فرد بقوة هذه الحكومة. ولكن للحق أن هذه الحكومة قد تولت الحكم فى فترة من أسوأ فترات تاريخ مصر من حيث إنتشار الفوضى وإنعدام الرؤية، كما أنها تعرف أنها حكومة مؤقتة لن تستغرق فى الحكم سوى أشهر معدودة .
سادسا: أوضح اللواء العصار بأن جهاز الشرطة فى مصر قد تلقى ضربة هائلة بثورة 25 يناير، وأن القوات المسلحة لا تستطيع القيام بدور الشرطة لأنها غير مدربة على ذلك وليست لديها الأدوات والأفراد ولا بديل عن جهاز الشرطة، وبأنه بدون عودة هيبة رجل الشرطة فسوف يكون من الصعب إستتباب الأمن، وهناك فرق كبير بين وجود هيبة لرجل الشرطة والخوف من رجل الشرطة، وهذه معضلة كبيرة لكل من جهاز الشرطة والشعب المصرى، يجب على جهاز الشرطة أن يفرق فى التعامل بين المجرمين والبلطجية وبين الناس العاديين، ويجب على أفراد الشعب أن يعرفوا أن أى تطاول على أفراد من جهاز الشرطة ليست شطارة أو ثورجية ولكنها قلة أدب وسوء تربية وستكون نتيجتها إنعدام الأمن للجميع.
سابعا: أوضح اللواء العصار أنه لأول مرة يقوم جيش فى بلد بعمل تنمية سياسية، ساهم فى الإعداد للإعلان الدستورى، يشجع قيام الأحزاب الجديدة، يساهم فى تمويل لحملات الإنتخابية للمرشحين الشباب إقل من 40 سنة بل ويتحمل عنهم سداد تأمين الترشيح للمجلس، ويقوم بتنظيم اللجان الإنتخابية بالتعاون مع وزارة الداخلية، وطالب هو واللواء حجازى من كل أفراد الشعب وخاصة الشباب فى الإنخراط فى العملية السياسية، كما أنه رفض إستخدام شعارات دينية أثناء الإنتخابات.
ثامنا: رفض اللواء العصار مبدأ تعيين وزير داخلية من الجيش كما أنه رفض ترشيح رئيس لمصر من الجيش، وقال أنه مع الدستور فى أن يكون رئيس الجمهورية quot;المدنىquot; هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
تاسعا: وإذا كان بعض الثوار والمصريين لا يرون كل الإنجازات التى تحققت منذ بداية ثورة 25 يناير فذلك لأنهم لا يرون إلا الجزء الفارغ من الكوب على حد قول اللواء حجازى، أو لأنهم يعملون لمصلحة خاصة قد تتعارض مع مصلحة مصر سواء بقصد أم بدون قصد.
عاشرا: علمت أثناء كتابة مقالى هذا بأنه قد تم إلغاء مقابلة تليفزيونية بين علاء الأسوانى ويسرى فودة للرد على ما قيل فى لقاء اللوائين العصار وحجازى بالعاشرة مساء، وإن كان هذا الإلغاء قد تم بإيعاز من المجلس العسكرى فإن هذا خطأ كبيراويعتبر حجرا على حرية الرأى، وما يكتبه علاء الأسوانى فى الجرائد وعلى صفحات الإنترنت أخطر بكثير مما قد يقوله أمام التليفزيون، وأن الإلغاء يضر بسمعة المجلس العسكرى أكثر بكثير من أى كلام قد يقوله علاء الأسوانى أو غيره.
....
وأخيرا أود أن أقول وأحذر، منذ قيام ثورة 25 يناير زاد عدد سكان مصر بأكثر من مليون نسمة، ودخل إلى سوق العمل أكثر من نصف مليون ولست أدرى كم مليون قد فقدوا وظائفهم منذ الثورة وحتى الآن، ولست أدرى إلى متى سوف يتحمل هؤلاء تلك البطالة، إن بعض رجال الإعلام والصحفيين ونجوم التوك شو وضيوفهم يتكسبون كثيرا من الأوضاع الحالية وبعضهم لا يهمه سوى زيادة توزيع جريدته أو زيادة عدد مشاهدي برنامجه، ولتذهب البلد إلى الجحيم، ومعظمهم يفعل هذا بحسن نية، ولكن كما قيل فإن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
[email protected]