وثيقتان مهمتان تكشفان: إلي أين تتجه مصر في الشهور القليلة القادمة، الأولي quot;أمريكية quot; صدرت قبل ثمانية أشهر في واشنطن تحت عنوان quot;خطة أوباما لإجهاض المد الثوري في مصرquot;، والثانية quot;مصريةquot; صدرت أمس وهي quot;مسودة المبادئ الأساسية للدستورquot;، ويطلق عليها quot;وثيقة السلميquot; نسبة للدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء في الحكومة المصرية لتسيير الأعمال.
بالتوازي والتقاطع، ينبغي أن تقرأ الوثيقتان معا، لماذا؟ .. لأن من يرفض quot; وثيقة السلمي quot; ndash; من الليبراليين واليساريين وأنصار الدولة المدنية ndash; يجد نفسه بالضرورة منحازا - وعلي غير رغبته - إلي موقف التيارات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين التي رفضت هذه الوثيقة الصادمة.بينما إذا قرأت quot;وثيقة السلميquot; في ضوء quot;خطة أوباماquot; ربما تكتشف أن النقد الموجة لها: هو نقد quot;للعسكر وللإخوان المسلمينquot; وquot;لخطة أوباماquot; معا.
كيف؟
quot;خطة أوباماquot; تسير علي مرحلتين، المرحلة الأولي quot;انتقاليةquot; قصيرة: يكون نظام الحكم خلالها في أيدي العسكر، ويتم فيها الحفاظ على الدستور المصري الراهن والنظام القديم، مع إجراء تعديلات بسيطة وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان المسلمين في البرلمان، وهو ما تم بالفعل في الاستفتاء علي هذه التعديلات الدستورية في شهر مارس الماضي، وترأس لجنة التعديلات القطب الإسلامي الكبير المستشار quot;طارق البشري
quot; ومعه المحامي الإخواني quot;صبحي صالحquot;، وجاءت النتيجة مخيبة لآمال أنصار quot;الدولة المدنيةquot; ( 22% قالوا quot; لا quot; للتعديلات الدستورية في مقابل 78% قالوا quot;نعمquot;) حسب خطة أوباما بالضبط.
المرحلة الثانية وهي الأخطر والأطول، تتعلق بالإنتخابات حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تثبيت النموذج الباكستاني في مصر وليس التركي. والفارق بين النموذجين كبير، في النموذج التركي تقف المؤسسة العسكرية وراء الستار لضمان ( علمانية المجتمع ). وتلك ليست ظروف مصر الحالية ndash; من وجهة نظر إدارة أوباما - التي تريد للمؤسسة العسكرية أن تقبع خلف الستار، تدخل إلى مقدمة المسرح لتصفية الصراعات بين التيارات الإسلامية باعتبارها نقطة التوازن لا أكثر .. أما علي المسرح فيحكم برلمان إسلامي منتخب، هذا هو نمط الديمقراطية المقدم من الولايات المتحدة لمصر.

ما علاقة ذلك بـquot;وثيقة السلميquot; الصادمة، والتي أثارت كل هذا اللغط؟
أولا: بعد الإعلان عن هذه الوثيقة ndash; التي استشعر الإسلاميون خطورتها عليهم مبكرا- أصبح المجلس العسكرى فى حكم quot; العدو quot;، وهو ما ينذر بالطلاق بينهما بعد ثمانية أشهر من الزواج العرفي ... فقد أفصح الإسلاميون عن نوياهم بوضوح وهم يلوحون بالعصا و الجزرة، أما العصا فهى الثورة الثانية .. و أما الجزرة فهو ما صرح به quot; حازم صلاح أبو إسماعيل quot; المرشح المحتمل للرئاسة: الخروج الآمن للمجلس العسكرى الحاكم، وعفا الله عما سلف من quot; ذنوب quot; فى حال تسليم السلطة للإسلاميين ndash; حسبما جاء في خطة أوباما .
في المقابل أراد المجلس العسكري الحاكم بهذه quot; الوثيقة quot; أن يجتذب القوي الليبرالية واليسارية والأقباط في صفه، من خلال رسالة محددة، هي: إما أن تقبلوا بما تشمله هذه الوثيقة من إمتيازات للعسكر مقابل quot; مدنية الدولة quot; و إلا فإن الإسلاميين علي استعداد لأي صفقة لجعل مصر quot; دولة إسلامية quot;؟.
ثانيا: الخلاف الرئيسي حول هذه quot; الوثيقة quot; تمحور حول المادة التاسعة ( التي تقف كل القوي الوطنية ضدها ) الخاصة بصلاحيات المؤسسة العسكرية والتي جاء فيها: أن الجيش يختص دون غيره بالنظر في كل ما يتعلق بالشئون الخاصة بالقوات المسلحة وأهمها quot;ميزانيته quot;، كما يختص دون غيره بالموافقة علي أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره.
هذه المادة لا يمكن أن تكون من صياغة quot;قانونيquot; أبدا، لأنها تتعارض والدساتير المحترمة المعروفة في العالم، وإنما هي من ديباجة quot;أحد ترزية القوانين في عهد مباركquot; الذي يجمع بين الاستبداد والفاشية والغباء في مزيج نادر، ذلك أنه منح المؤسسة العسكرية quot;صلاحيات مطلقةquot; تضمن لها الحصانة الدائمة، وتحافظ علي مكاسبها وسلطتها المنزهة عن المسائلة، أي عزل المؤسسة العسكرية عن بقية مؤسسات الدولة وحمايتها بأسوار عالية، وكأنها quot;دولةquot; داخل quot;دولةquot;، وهو علي النقيض تماما من مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية، التي قامت من أجلها ثورة 26 يناير 2011 وأستشهد من أجلها خيرة شباب مصر.
ثالثا: أن quot;وثيقة السلميquot; تضع مصر ومستقبلها تحت تصرف العسكر، حتي قيام quot; ثورة أخري quot;، وهي تتناقض والإعلان الدستوري الصادر قبل أشهر قلائل عن المجلس العسكري نفسه، الذي تعهد فيه: بأنه لن تكون هناك مبادئ فوق دستورية، إلا إذا حدث توافق من القوي الوطنية حولها، لأن جوهر أى عمل سياسى فى المرحلة الانتقالية الراهنة، هو الوصول إلى اتفاق وتوافق بين التيارات السياسية المختلفة، لا الانقسام والتشرذم.
إن صياغة ملامح مصر الجديدة بعد الثورة، يجب أن تشارك فيها كل القوي الوطنية وأن تشترك فى ملكية أية quot;وثيقة quot; كانت، ناهيك عن أن أية محاولة لتحقيق ديمقراطية شكلية أو منقوصة، ستفتح الباب أمام الفتن والصراعات التي ستؤثر حتما على استقرار مصر والمنطقة لسنوات قادمة.

والخلاصة: إن الإسلاميين مثل المجلس العسكري تماما، (يسألون) عما آلت إليه الأمور في أرض مصر المحروسة، وعن حالة التخبط والالتباس التي نعاني منها في تحديد ملامح الدستور الجديد، التي هي نتيجة حتمية للتعديلات الدستورية الملغومة التي صاغنها لجنة المستشار طارق البشري من جهة، وquot;تأويلquot; العسكر quot;اللاهوتيquot; ndash; والخاص جدا - لخطة quot;أوباماquot; في مرحلتيها: الأولي والثانية، من جهة أخري!

[email protected]