هذا القول يقال مرار وتكرار في منطقتنا، انه يقال كل ما حدث صراع داخلي بين مكونات المجتمع الطائفية والدينية والقومية.

الحقيقة التي لن يختلف عليها اثنان، ان الفتن بين مكونات المجتمع من مظاهر التخلف والعنصرية وعدم تقبل الاخر، سيقولها القاتل والمقتول، الظالم والضحية، لان هذا القول صار من مستلزمات العصر ليس الا. ولكن لحد الان لم يقل لنا احد، لماذا نترك الفتنة نائمة ولا نقتلها قبل ان تصحى وتدمر الانسان والعمران ؟ يظهر من يقول هذا القول على انه ضد الفتنة او الفتن التي تحدث وبشكل دوري. ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالذي يكون ضد الفتن وما تجلبه.عليه ليس فقط تجنبها، بل العمل الجاد والحقيقي لازالة كل ما يشجع او يدعم الى عودة الفتن او وجود اسباب للفتن المستقبلية. الكل يدرك ان الفتن والاضطرابات والصراعات الدموية، التي تحدث بين الحين والاخر لاسباب طائفية او دينية او قومية، هي من اسباب تخلف بلداننا، وتحدث فيه تدميرا اقتصاديا، وتنمي العداء وعدم الثقة. فالسؤال المطروح على من ينادي ببناء الاوطان اقتصاديا وسياسيا، اليس من المفترض ان نبن الوطن اجتماعيا ونخلق مواطن يؤمن بانه حقا مواطن، وليس اسير طائفة تحميه من الطوائف والاديان والعشائر الاخرى؟ لماذا لا نضع معالجات حقيقية يتعذر معها ايقاظ الفتن التي لم تترك لنا شيئا جميلا الا ودمرته؟ بالتأكيد ان المعالجة لا يجب ان تكون الاستسلام لمشيئة طائفة او قومية او دين او حزب معين، فهذا الامر عايشناه وعانينا منه سنين طويلة، ولم ينجب لنا الا ما نعيشه الان.

لعل من الفتن التي يمكن ايقظها هي الفتن الطائفية، بين السنة والشيعة، او الدينية بين المسلمين والمسيحيين. وهناك فتن اخرى تظهر بين الحين والاخر ولكننا اخترنا الشيعية السنية والاسلامية المسيحية لانها اكثر ظهورا في الاعلام ولانها معاشة بشكل يومي.

السنة والشيعة مذهبان في الاسلام، وهناك خلاف او اختلاف بين الطرفين، ولو لم يكن هناك خلاف واختلاف، لما كان هناك اصلا سبب للانقسام المذهبي، والخلاف عميق الجذور ويعود الى خلافة على بن ابي طالب اي السنوات الاولى من عمر الاسلام، وخلال كل هذه السنين، تجذر الخلاف واستحكم وصار له اسس وقوانين وتركات كثيرة، تمتد الى المجال الاجتماعي والسياسي. واذا كان يمكن ان نتفهم الصراع الدامي بين الطرفين على طوال التاريخ، فانه من الظروري التنبيه الى اننا نعيش عصر بات فيه التعدد والاختلاف محل ترحيب وفخر. ولكننا في الواقع نعيش في عصرين، ندعي اننا نعيش في القرن الواحد والعشرين ونؤمن بكل مفاهيمه في القبول بالاخر المختلف كما هو، اعلاميا وخصوصا عندما نخاطب العالم الخارجي. ولكننا في الواقع نعمل بعقلية الغاء الاخر وازالته ومحوه من الوجود. ان منحنا لانفسنا فرصة وشاهدنا القنوات الفضائية التي تحاول ليس التشكيك بالاخر، ولكن تكفره وتهدر دمه علنا، ستثبت لنا اننا كلنا نعمل، ليس لايقاظ الفتنة، بل لاشعال نيران الفتن الدائمة في بلداننا دون ان يرف لنا جفن.

اما الفتنة الاسلامية المسيحية، فوصلت لحد ان هناك خوف حقيقي على الوجود المسيحي في المنطقة، علما ان المسيحية في المنطقة، هي ديانة اصيلة وتسبق الاسلام في الوجود، واذا كانت المسيحية قد انتشرت بفعل التبشير، ولم تمتلك دولة او سلطة سياسية، وخصوصا في القرون الثلاثة الاولى من عمرها وهي القرون التي ثبتت المسيحية وترسخت من العراق الى سوريا ولبنان وفلسطين وجزيرة العرب واليمن مروا بمصر والشمال الافريقي. فان الاسلام انتشر بفعل الغزو في هذه المنطقة، اي اتى الاسلام ومعه سلطة سياسية تدعمه. وقد شارك المسيحيين في صنع وتطوير الحضارة الاسلامية، من خلال مثقفيهم واطباءهم وعلماءهم ومترجميهم، ولولاهم لما عرف المسلمين علوم الاغريق والرومان. ورغم المعايشة الطويلة بين الديانتين، ورغم كل احداث التاريخ، كان من المفترض منطقيا ان يكون التعايش هوالشعار السائد بين الطرفين في العصر الحالي ومع بناء الدول الحديثة، الا ان الحقائق تقول ان المسيحيين باتوا محاصرين بشعارات ترعبهم وتجعلهم يشعرون حقا بانهم مهددين، في معتقدهم واسلوب عيشهم، لا بل انهم يشعرون انهم غرباء في اوطانهم، وهذا شعور رهيب، فعندما يفتقد المرء الوطن يلجاء الى اي ركن امن ليعيش فيه ويختاره وطنا.

ليست غايتي هي وقف الاعمال الفكرية في النقد ودراسة التاريخ وابراز الحقائق من وجهات نظر مختلفة، فهذه الامور هي التي تفيد وتجعل الناس تفهم ان كل شئ قابل للدراسة وللفحص ويمكن ان يخضع للنقد. وبهذا يمكن ان نضع الانسان في موقعه الصحيح الا وهو انه المقدس، وليست الافكار والنصوص. فكل شئ كان ويجب ان يكون لخدمة الانسان وتطوره وتعزيز حريته وكرامته. ولكن هذا شئ، وما يحدث في الواقع شئ اخر. فعندما تكفر الاخر، وتهدر دمه، يعني منح الحق في قتل هذا الاخر، ويعني منحه الحق في ان يعاملك بالمثل، فليس هناك من له الحق في ان يعتبر الاخرين كفارا او فاسقين او اي كلمة احتقار مما تقال في الفتاوي المختلفة التي يتحفنا بها البعض بين الحين والاخر. ان سهولة الحصول على فضائية او اي وسيلة اعلامية وتعدد هذه الفضائيات والوسائل الاعلامية جعل من كل من هب ودب يقوم بالافتاء والتوجيه وتبوء كرسي الاستاذية والاجتهاد وان كان غير ملم بامور الدين كفاية. او حتى لا يهمه استقرار وامن المجتمع، بل كل همه منصب لاظهار حقده وكره للاخر. واغلبهم لا تهمه الكرامة البشرية ولا يهتم ان حدثت قتل او دمار بعد بث هذه السموم اليومية والتي يسمعها مئات الالاف. ولان الجهل متفشي في المنطقة فيتم اخذ كل ما يسمع كحقائق لاجدال فيها وخصوصا انها اتت من رجل دين، ويتم البناء عليها والتصرف بمقتضاها.

ان شغف الجمهور ومتابعته للخطاب الطائفي والديني المتعصب الكاره للاخر والمكفر له، هو نتيجة للاحتقانات التي نعيشها، احتقان اجتماعي وسياسي واقتصادي، والدولة التي كان يفترض بها معالجة الامر، تركت مسؤوليتها الاجتماعية والاقتصادية ليديرها الناس كيفما شاؤا، واهتمت بالجانب السياسي والحكم والسلطة. وكامثلة حية على غياب دور الدولة في التنظيم الاجتماعي، هو الزيادة الهائلة في عدد السكان، مما يضيف اعباء مختلفة على الدولة ولكن الدولة تركت هذا الشأن لرجال الدين ممن يشجعون زيادة النسل بدعوة نشر الدين او لان تحديد النسل هو مخالفة لشرعة الله. عندما يجد الشعب ان مستقبله غير مامؤن، ووضعه غير مستقر، ولا امل في اي تغيير، فانه يلجاء الى الغيبيات ووضع اسباب حالته على المختلف، الشريك الاخر في الوطن، وعندما يتزاوج هذا الاحتقان وعدم الامان مع الجهل بالاخر وبمعتقداته، يحدث الشرخ الكبير وتجد الفتن مجالا لتكشف عن نفسها. فاي شرارة صغيرة،او تماس له صلة بما تعتقده الطوائف من مقدساتها تندلع شرارة النار التي تلهب الاخضر واليابس، بيد اناس غاضبين منددين ومستعدين لاقتراف كل شئ لاسترداد الشرف المفقود.

ما يظهر اليوم ان الجميع سائر في اتجاه واحد، الا وهو اشعال المنطقة بنيران حرب طائفية لن تترك شيئا، والنخب المثقفة مستسلمة لخيارات الاكثرية المسيرة من قبل رجال دين، لا يفهمون في ادراة الدولة، ويعتقدون ان ادراة الدولة العصرية يمكن ان يكون كادراة المدينة في زمن النبي محمد. فهل يمكن في مثل هذا الوضع ان نتوقع ظهور معجزة لايقاف انحدار المنطقة نحو المزيد من التشرذم والتفتت؟

[email protected]