دأب الغرب منذ سنين عدّة على نعت الشعوب العربية، والشرق أوسطية عموماً، بأنها شعوب غير مؤهّلة لاستيعاب الديمقراطية والتحوّل صوب تطبيقها. ووفق وجهة النظر الغربية هذه، السلبية والدونية، فإن المتّهم الأول في غياب الديمقراطية عن المنطقة كان الشعوب الشرق أوسطية، إلا في حالات، نادرة جدّاً، كان يُلقي فيها الغرب مسؤولية هذا الغياب للديمقراطية والحرّيات العامة على الأنظمة الدكتاتورية، كما في الحالة العراقية، وبالتحديد عند زوال لزومها ومسببات وجودها، أو لدى تمرّدها وخروجها عن الطاعة.

صمت وسكوت الشعوب على مظالم واستبداد حكّامها منبوذ ومكروه بكل تأكيد، وتأنفه حتى الديانات السماوية التي تطالب بالثورة على الظلم وعدم السكوت عليه. الشعوب الشرق أوسطية بلا شك تتحمّل جزءاً من مسؤولية بقائها الطويل رازحة تحت نير وظلم حكّامها الطغاة المستبدّين. ولكن، ومع ذلك، يبقى وصف الشعوب الشرق أوسطية بأنها قطعان مسيّرة، غائبة عن الوعي والتفكر بغدٍ أفضل، رضت على نفسها الذلّ والهوان، لا تفقه شيئاً عن الديمقراطية وقيمها، وصفاً فيه الكثير من الإحجاف، والتجاهل، أو ربما التعمّد، للأسباب الحقيقية الكامنة وراء بقاء هذا الجزء من العالم، المتفرّد في الكثير من سلبياته الاستثنائية، لا ديمقراطياً.

منطقة الشرق الأوسط وشعوبها هي ضحيّة أنظمة دكتاتورية مستبدّة قمعية متعجرفة متغطرسة، معظمها جاءت إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية مدعومة، أو دُعمت بعد توليها السلطة، من قبل الغرب وعلى رأسه أمريكا. والعلاقات الوثيقة بين الغرب وهذه الأنظمة الدكتاتورية، والدعم الذي كانت تتلقّاه هذه الأخيرة، ليس من خفايا الأمور ويعرف بوجوده القاصي والداني. بل حتّى إنّ العديد من الغربيين يتحدّثون، بلا حرج أو أسف، عن الحميمية في العلاقة التي كانت تربط بلدانهم وهؤلاء الدكاتوريين. فمثلاً، ها هم رهطٌ من هؤلاء يقولون بأن أمريكا تحالفت مع quot;الشيطانquot; فخسرت، وهم بالطبع يقصدون بالشياطين الدكتاتوريات، الزائلة والباقية بعدُ، ولا يرمون بالكلمة تحالف أمريكا مع نفسها، لأنها ليست الشيطان بل هي quot;الشيطان الأكبرquot;، على حدّ تعبير الدكتاتورين الفارسييْن الشيطانين الأصغرين، محمود أحمدي نجاد وعلي خامنئي.

كما أن الدعم الأمريكي لدكتاتوريات الشرق الأوسط لم يتوقّف حتى في خضم الانتفاضات الشعبية العارمة التي تشهدها المنطقة الآن، حيث كشفت صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; أنّها، أي أمريكا، quot;أرسلت دبلوماسيين كبار خلال الأيام الأخيرة لتقديم المشورة والطمأنينة لحلفائها - حتى أولئك الذين يقودون أكثر الحكومات الخانقةquot;. ألا ينزع مثل هذا الموقف، في مثل هذه الظروف الحرجة التي تمرّ بها عموم المنطقة حيث الشوارع مترعة بدماء الشهداء، القناع عن حقيقة الغرب؟ أليس غريباً أن يأتي الغرب بعد كلّ هذا الدعم لهذه الأنظمة وينعتنا، نحن شعوب الشرق الأوسط، بفقدان الأهلية لقيادة بلدان ديمقراطية؟ ألا ينطبق عليه، مئة في المئة، المثل القائل quot;يقتل القتيل ويمشي في جنازتهquot;؟

إذا كانت الثورات الشعبية المتفجّرة في وجه الطغاة الآن قد تأخّرت بعض الشيء، وهذا صحيح، إلا أن نضالات النخب الوطنية وقوى المعارضة السياسية، الحقيقية، ضد الأنظمة الدكتاتورية لم تتوقف لحظة واحدة، منذ مجيء الأخيرة إلى سدّة الحكم وحتى الآن. وما من نظام دكتاتوري في المنطقة إلا وتحدّته ووقفت في وجهه القوى الوطنية ذات الأفكار النيّرة، المطالبة بالإصلاح، والتغيير، وتطبيق الديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، وغيرها من القيم التي تشكّل أسس قيام المجتمع المدني الخالي من التفرّد بالسطلة والنفوذ، كما هو الآن حال معظم بلدان الشرق الأوسط. وبالطبع هذه النضالات، كانت ولا تزال، تجابَه من قبل الطغاة بقمع منقطع النظير تقشعر له الأبدان. ومصير المناضل، المعارض، كان ولا يزال، أما القتل تحت التعذيب داخل السجن، أو الترهّل داخله واللجوء إلى المنافي عقب الخروج، إلا في حالات نادرة حين يرفض فيها الثائر الخروج من البلد، فإما أن يقضي حياته في السجن، أو يبقى خارجه، بلا حول ولا قوة، في مواجهة يومية مع عنجهية وغطرسة وعجرفة الطغاة وأعوانهم وأزلامهم. والسجون والمنافي لا تزال حتى الآن شاهدة على المآسي والويلات التي جرّتها هذه الأنظمة الدكتاتورية على شعوبها. والحراك الثوري الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط هو امتداد طبيعي لنضالات سابقة مستمرّة، حتى وإن اختلف عنها من حيث الشكل، كما أنها نتاج وعي ديمقراطي تمخّر على مدى عقود من الزمن قبل أن يتفجّر ويظهر للعلن في أبهى وأرقى وأسمى أشكاله، وهو ما يتبيّن بكل جلاءٍ في صورة الانتفاضات الشعبية العارمة، التي تعتمد أسلوباً سلمياً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة في معنى، في مواجهة آلة القمع والقتل والتنكيل التي تقودها الأنظمة الدكتاتورية.

أياً يكن، فإن الثورات الشعبية الناشبة حالياً على امتداد مساحة الشرق الأوسط، والمطالبة بالتغيير الجذري الشامل وتعزيز السياسات الديمقراطية، وهو الأمر الجلي في الشعارات المرفوعة من قبل quot;الثوارquot; المنتفضين، تكذّب وتفنّد مزاعم الغرب بأن شعوب هذه البقعة من العالم مستثنون من القواعد التي تجمع بني البشر، وبأنهم غير مؤهّلين لاستيعاب الديمقراطية والتحوّل صوب تطبيقها. آن الأوان لكي يصوّب الغرب نظرته الخاطئة والاستعلائية هذه تجاه الشعوب الشرق أوسطية، وأن يعترف بدوره quot;الكبير جداًquot; في ما شهدته هذه المنطقة من خراب ودمار، على مدار سنوات طوال ، جرّاء دعمه للأنظمة الدكتاتورية التي كانت تحكمه. آن للغرب أن ينصاع لدعوات ومناشدات شعوب المنطقة بدعم تطلّعاتها نحو الحرية والديمقراطية والكفّ عن دعم ومساندة الأنظمة الدكتاتورية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن هذه الدعوات غير مقتصرة على شعوب المنطقة وحدها، حيث هناك من الداخل الغربي نفسه أصوات تطالب أنظمتها بإيقاف مشاركتها في قتل شعوب الشرق الأوسط! من بين هذه الأصوات، على سبيل المثال، الوزيرة الفرنسية السابقة والنائبة في البرلمان الأوروبي تقيّة الصايفي، المتحدّرة من أصول جزائرية، والتي دعت الاتحاد الأوروبي إلى quot;التخلي عن دعم الدكتاتوريات، والتوقف عن اعتبار العرب غير ناضجين وغير مؤهلين للانتقال إلى الديمقراطيةquot;.

أمريكا تعاملت مع الشياطين، حسب توصيف بعض من الخبراء الأمريكيين والذي أشرنا إليه سابقاً، ولم ينفعها ذلك. وكان لهذا التعامل بالغ الأثر على الشعوب التي دفعت أثماناً باهظة لتحالف شياطينها مع الغرب. الرئيس الأمريكي باراك أوباما وفي خطابه الذي ألقاه حول الأوضاع المأساوية في ليبيا، ندّد بنظام العقيد معمّر القذافي وبقمعه لشبعه، وقال بأنّ كلّ ما يطلبه الليبيون هو العيش كبشر! والسؤال هنا؛ هل سيدع الغرب الشعوب الشرق أوسطية تتخلّص من quot;عيشة الحيواناتquot;!؟ وهل سيتوقف عن دعم الشياطين ويتوجّه نحو مؤازة ومساندة الشعوب،الملائكة، التي لا تريد أكثر من العيش كبشر أحرار؟

[email protected]