يحضرني وأنا أفكر في كتابة هذا المقال ما وصفة الإنجيل عن نبي الله موسى اليهودي الجنسية، والذي تربى في مصر منذ نعومة أظفاره حتى خرج من مصر، يقول الإنجيل عنه: quot; تهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدرًا في الأقوال والأعمالquot;. فقد شكلت حضارة المصريين وثقافتها وحكمتها قائدًا مقدامًا، يشهد عنه التاريخ العام والتاريخ الديني على كافة المستويات، فحياة موسى صناعة مصرية أصيلة!

وبادئ ذي بدء أن الثقافة هي سلوك يومي وأسلوب في التفكير ونمط في التعامل. فاللفظ الإنجليزي Culture هي كلمة فرنسية قديمة مأخوذة من اللاتينية Cultura، وجذرها يعني الزراعة والتربية والحضارة بالإضافة إلى الإقامة والسكن... هذا هو المعنى اللغوي لكلمة quot;ثقافةquot; في اللغات الأوروبية.

والإنسان المثقف هو الإنسان الذي يقدم مواهبه وملكاته إلى مجتمعه. فالمثقف هو الإنسان المتعلم أو الأديب أو السياسي أو الاقتصادي أو المفكر......الخ، الذي يهدف إلى تطبيق معرفته في الحقل الاجتماعي والإنساني. فالطبيب، الذي يسعى إلى الكسب على حساب القيمة الإنسانية لا يعتبر إنساناً مثقفًا. والمهندس الذي يرى في عمله خدمة لمصلحته الخاصة، لا يعتبر مثقفًا. والأستاذ الجامعي أو المدرس الثانوي أو الابتدائي الذي لا يعلّم تلاميذه وطلابه فن التفكير، لا يعد مثقفًا. والأديب الذي يحتجز أدبه في نطاق انفعالاته، لا يعد مثقفًا. ورجل الدين الذي لا يعرف كيف يطبق مفاهيم الدين الصحيحة على الواقع المعاصر لا يعد مثقفًا، وإذا استحوز على فكره البحث عن المنصب قبل خدمة مجتمعه، والاهتمام بالمال قبل القيمة، لا يعد مثقفًا.

ولذا فقد أردت أن أكتب مشاركًا بصورة إيجابية، متوسمًا فيما أكتبه أن يكون تعبير صادق عما يدور في عقلي ويمتلك على كياني من حب لمصرنا العزيزة ومجتمعنا المصري الغالي. إننا في وقت نحتاج فيه إلى المساندة والتكاتف، في إعادة صياغة عقل ووجدان المصريين الذي يمثل صمام الأمان والضمانة الأساسية في عملية البناء والتطوير للحاضر والمستقبل.

نحتاج إلى أن نضع أيادينا في أيدي بعضنا البعض بدلاً من المجادلة في وجهات النظر. نحتاج إلى النظرة إلى الأمام لا البكاء على الذات ولا على اللبن المسكوب، بل نحتاج إلى بناء ما قد تهدم لا هدم ما تبقى لدينا، نحتاج إلى احترام ما لدينا من قدرات وإمكانيات لا للتحقير أو الشعور بالقلة لما لدى البعض منا. حاجتنا الماسة إلى ترجمة إحساسنا بالمسؤلية إلى واقع ملمسوس حتى لو بدا لنا أنه نقطة في محيط، بدلاً من لوم الآخرين وبدلاً من إهدار وقتنا وجهدنا والتشويش على رسالتنا.

من هنا، رأيت أن أكتب عن قصة قد وقعت في التاريخ القديم بين ملك وحكيم، الأخير كان بمثابة المستشار الشخصى والسياسي والاحتماعي للملك. قصة قد تلقي بظلالها علينا اليوم فتعيد لنا التفكير في دورنا وإحساسنا بأزمة المجتمع.

يحكى أن الملك كان صغيرًا وقليل الخبرة، لأن أبوه قد مات وترك له تركة ثقيلة تتمثل في: الهزيمة واستعمار العدو لعدة مدن من بلاده. كما أنه باتت في حوزته قوة عسكرية ضعيفة، والتهديد المستمر من العدو. وفي ذلك الوقت علم الملك يهوآش بأن جيش العدو قد احتشد للهجوم، ولم يكن هناك قوة مماثلة لتقف أمام هذا الهجوم. فتأكد الملك من الهزيمة والوقوع في الأسر، واحتلال مدن جديدة، فارتعب من الموت وأمرضه هاجس الخوف والقلق. ومن هنا هرع الملك إلى الحكيم يطلب المشورة والمعونة - وقد كان هذا الحكيم، بمشوراته للملك الأب، قد أنقذ الملك والبلاد من كمائن عديدة قد نصبها له العدو، بل وبسبب مشورته كُتب لهم النصر في معارك كثيرة. فلولا هذا الحكيم لخربت البلاد، تُرك الناس مشردون بلا مأوى، وهلك الجيش عن بكرة أبيه - وهذا هو الذي جعل الملك يذهب للحكيم.

ولكن لسوء الطالع، فكان الحكيم مريضًا حتى الموت. ومن هول المفاجأة بكى الملك ووصف الحكيم بأنه quot;الجيش والعتادquot; بمعنى أن الحكيم كان في عيني الملك قوة جيش بكامله. وبكى الملك ليرى الحكيم دموعه ويسمع نحيبه ويتعاطف معه، ويخفف عنه الألم ولوعة الحيرة والقلق، ويبدوا أن الملك قد أطلق نحيبه بكلمات تبدوا استعطاف الحكيم له. ويبدو المشهد أنه لم يكن يبكي بسبب موت الحكيم بل كان يبكي على نفسه ويرثي على ذاته وعلى حاضرة والواقع الذي كان يعيش فيه.
مشورة الحكيم؟

لم يكن لديه وقت في أن يكفكف دموع الملك بينما الكارثة تهدد كيان البلاد كلها، ولم يكن لديه من الجهد البدني آنذاك أو النفسي للإستفسار من الملك وعن أي شئ، أو يلومه على، تقصير ذاتي، أو يطلب منه إعادة التفكير فيما أساء استخدامة في حكم البلاد، أو الترف الذي كان يعيش فيه. لكنه بدون مقدمات أو الخوض في شكليات تتبع في محضر الملوك، أمر الحكيم الملك قائلاً له:
1- quot; خذ قوسًا وسهامًاquot;. وكأن رد الحكيم على الملك أنه لا وقت للبكاء على الذات، قم وتحرك و quot; ركّب يدك على القوْسquot; إنه وقت الاستعداد لمواجهة خطر الغزو، إنه وقت الأقواس والسهام. وكانت مشورة الحكيم تدريبًا معنويًا له دلالات في والواقع.

بالفعل نفذ الملك أمر الحكيم، لكن دموعه لم تكن قد جفت بعد من عينيه، فحجبت عنه الرؤية السليمة، وزادت من ضعف قلبه ومن وهن إرادته، وارتجفت يداه فلم تقو على أن تمسك القوس والسهم بإحكام. ولما وجده الحكيم بعد خائفًا، مرتعبًا، مهزوزًا، متراجعًا، وضع يده على يديه، فاستشرَت القوة في قلب الملك، وانتصب عوده، وجفت دموعه وزال عنه الخوف، وامتلك كيانه وعادت ثقته، فأصبح جاهزًا أن يطلق السهام.

2- لقد كان الملك في غرفة الحكيم، وقد لاحظ أن الملك يصوب السهام ناحية الحائط أو النافذة المغلقة. وهل تُطلَق السهام فى غرف مغلقة، ربما يكون الإعداد والتجهيز في مكان التدريب المغلق، لكن لا تطلق السهام من نافذة مغلقة. ومن هنا جاءت الخطوة الثانية للمواجهة وهي: quot; افتح النافذة تجاه العدو quot;. افتح الفرص، أو استخدم الفرص، تعامل مع الأزمة مباشرة، وجه نظرك وقوسك وسهامك صوب الاحتياج. بدون فتح النوافذ لايمكن أن تُطلَق السهام، وكل جهد سيكون بلا قيمة أو فائدة.|

3- أمره الحكيم أن يفتح النافذة ويطلق السهام، لم يتردد الملك في يفتح النافذة، ويرمى السهام. وعلت صيحة من الملك المريض مفعمة بالفرح والبهجة وغمرة الانتصار quot; هيهات من نصرة على العدوquot;. نُصرة الإرادة والمواجهة للأزمة، وإطلاق السهام حيث النافذة المفتوحة.

4- هل يكفي أن يصوب الملك السهم الأول ويرميه على العدو، هل تكفي الضربة الأولى؟ أو هل تكفي أول محاولة؟. آه من رؤيتنا القصيرة الأمد، التي تضعف عزيمتنا، فتنعكس على شخصياتنا وعلى حركة تقدمنا. الشخص الضعيف تبهره الفرحة الأولى وتنسيه مواصلة المواجهة. القلب الفاتر لا يصنع فرقًا في الحياة المنتصرة. كان الملك يقدر أن يفعل أفضل، إلا أن إرادته كانت ضعيفة. أمره الحكيم أن يضرب السهام في الأرض، ففعل ذلك ثلاث مرات، لكن بقلب فاتر. فغضب الحكيم على الملك الصغير من إرادته الضعيفة. وبالتالي لم يضرب العدو إلا ثلاث مرات. فلو كان صاحب إرادة قوية لأدى تلك المهمة إلى النهاية، هل كانت تنقص الملك ما أسماه د.مصطفي الفقى في إحدى مقالاته بالأهرام ثقافة التجويد؟، أو غياب الاتقان وضعف الضمير وانهيار المثل، وتراجع نوعية العمل الجيد بما يعني أن لدينا أزمة إنتاجية وخدمية واضحة هبطت بمستوي الأداء وكفاءة الفرد وقيمة العائد.

فهل ينقصنا نحن المصريين إرادة العمل والمثابرة للنهاية؟! فالمطلوب منا اليوم هو أن تكون لدينا الإرادة القوية في تجاوز حاضرنا الصعب والقدرة على إحداث خطوات عملية في المجتمع، بدلاً من الصدامات والاعتصمات والمحاسبات، والتمادي في عمليات الهدم دون أن نعير اهتمام أو نأخذ حطوة للبناء.
فهل نعيد النظر فيما نفعل وفي رد فعلنا لما يحدث من حولنا؟ فتكون ثورة الخامس والعشرين من يناير نقطة تحول إيجابية فارقة في تاريخ بلادنا.

[email protected]