ظهر في الصراع المسلح، الذي يدور بين قوى الثورة وكتائب الطاغية في ليبيا، نوعان من السلوك يتجليان على الجانبين.
في جانب قوي الثورة، ظهرت روح الفداء والتضحية وعشق الحرية، التي تجعل اناسا مدنيين من اصحاب مهن غير عسكرية، مثل المحامين والمهندسين واساتذة الجامعات ورجال الاعمال وطلاب الدراسات عليا، ممن عاد بعضهم من اوروبا ومن امريكا، ينخرطون في معارك مصراته وجبل نفوسه، ويبذلون دمهم رخيصا في سبيل الحرية، مع سلوك تميز بالرقي في معاملة الاسرى والتعاطي بشهامة ونبل مع الرفاق والمدنيين، و التزام باصول وقواعد المنازلة مع الاعداء اثناء المعركة، كما حدث مع الشهيد المدني في الزنتان الذي كان يقدم الامان لجنود من الكتائب وقعوا تحت حصار رفاقه، فتقدم يسألهم ان يسلموا انفسهم امنين بدل قتلهم، فاذا بهم يقتلونه غدرا، وعلى جانب الكتائب ظهرت انواع من القسوة والنذالة والانحطاط والسقوط الانساني والخسة في حدها الاقصى، ويمكن لمشهد واحد راه متفرجو العالم، معروضا على شاشات المحطات الفضائية، ان يلخص هذه الحالة، ويقدم تجليا، لها يشرح ابعادها، في مشهد يظهر فيه الثوري الشهيد االسيد احمد الغرياني وهو يقع اسيرا في ايدي بعض عناصر الكتائب، وسلوك الجانبين، ففي جانب من المشهد الاسير الثوري مرميا جريحا يتمدد فوق الارض، وجنود النظام يركلونه ويضربونه ويسالونه ان يقول يعيش القذافي، وهو يرفض ان يقول ما يملونه عليه، مرددا كلمات الله اكبر ولا اله الا الله، بمعنى انه يرفض ان يؤله احدا غير الله، وهم يركلونه ويهددونه بالقتل ان لم يقل ما يريدون قوله، وكان يمكن طبعا لمثل هذه الجملة التي تعني الاعتراف بسيادة وزعامة العقيد القذافي ان تنقذ حياته، ولكنه رفض ان يستسلم لمهانتهم، او ان يطلب النجاة لنفسه، بقول شيء لا يتفق مع قناعته، فكيف يمجد اسم الطاغية الذي خرج ثائرا لتخليص البلاد من شروره، وراى الناس في التلفاز كيف اطلق جنود الكتائب النار على هذا الاسير الجريح في دم بارد، ومخالفة صريحة لكل القواعد التي اتفقت عليها الانسانية في معاملة الاسرى، مرتكبين جريمة قبيحة من جرائم الحرب، ولم يكن ضحية هذه الجريمة، الا مواطنا، يلتقي مع الجنود الذين قتلوه، في انه ينتمي مثلهم لنفس البلاد، وينتمي مثلهم لنفس الدين، وينتمي مثلهم لنفس اللغة والثقافة، ولم يفترقوا الا على انه احب الحرية وخرج ينشدها حاملا روحه على كفه من اجل نيلها، واخرون هم جنود الكتائب اختاروا العبودية وخدمة الطاغية وخرجوا يقاتلون طلاب الحرية، ولم يكن ما ارتكبته الكتائب من انتهاكات للاعراض ومن اغتصاب للنساء، بعضهن تم اغتاصبن امام اهلهن من ابناء او اباء او اخوة، الا مثالا لهذا الانحاط الذي سجلته كاميرات التلفاز كما سجلته وثائق المحكمة الجنائية الدولية، التي ادانت راس النظام وابنه واحد اعوانه، وعلى اللائحة كما يقولون اكثر من ثمانين عنصرا ما زالت المحكمة في طور جمع الادلة والقرائن قبل اصدار مذكرات القبض بشانهم. وقد المني شخصيا رؤية مشهد اجرامي، يندى له الجبين، كان ضحيته شاعر صديق هو الزميل ربيع اشرير، عمل في بدايات الثورة مندوبا صحفيا يستقبل مهاتفات بعض المحطات الفضائية وينقل لها تقريرا حول المعركة في مدينته الزاوية. لم يكن مقاتلا ولم يكن يحمل الا قلمه، وعندما سقطت الزاوية، بحثوا عنه ولم يجدوه، فلجأوا الى حيلة بائسة هي الذهاب الى بيته، واعتقال والده ووالدته واخوته الصغار، واخذهم الى مراكز التعذيب والاتصال به من هناك، فاختار ان يسلم نفسه لانقاذ والديه واخوته، اذ ان المشاركة في المعركة في الجانب الاعلامي كانت اختياريا شخصيا من جانبه، فكيف يرضى ان يدفع افراد عائلته، الثمن بالنيابة عنه، وراينا على شاشة التلفاز، مشهدا لتعذيبه والتحقيق معه واهانته بشكل تجسدت فيه الوحشية في ابشع صورها، ولا زال الزميل الشاعر، موجودا في السجن كما تقول آخرالتقارير. ومثل ما اسلفت القول فانه لا جريرة له ولا جريمة الا انه واصل القيام بعمله الاعلامي لانه كان في مدينة الزاوية منذ الاساس، صحفيا يغطي الاخبار لبعض المنابر الاعلامية.
والحقيقة فان الكثيرين يتساءلون عن هذا الانحطاط من اين جاء، ومن اين جاءت هذه القسوة التي يعامل بها اهل الكتائب اناسا من اهلهم واخوتهم في المواطنة، واخوتهم في الدين؟ بل حصل في اكثر من مناسبة ان القائد العسكري الذي يقصف الناس في مدينة او قرية، هو ضابط ينتمي لنفس المدينة او نفس القرية، بمعنى انه يقوم بقصف وقتل عائلات واناس تربطه بهم علاقة القرابة، وعلاقة الانتماء لقرية او مدينة واحدة، ولكنها الخسة والنذالة التي ايقظها في نفوس هؤلاء العسكريين، نظام كريه، عمل منذ البداية على زرع هذه الخصال في نفوسهم، وقام بتربيتهم على هذه الاساليب الخسيسة الحقيرة، ثم جاء اخيرا، وبدل ان يجد هذا الحاكم حلا كريما مع شعبه، وضع البلاد كلها في هذه الحالة وانشأ هذه الورطة بحيث وجد المواطنون الليبيون، انفسهم في وجه بعضهم بعضا، وبقى هو يدير رحى الحرب ويصدر الاوامر العسكرية بالقتل والقصف، وانتهاك الاعراض، ظنا منه انه يستطيع ان يبقى بالقوة في السلطة ويحكم البلاد ربما لانه وعلى مدى اكثر من اربعة عقود كان اعتماده في الحكم على القوة وحدها دون ان يسعى في يوم من الايام لاكتساب رضا الناس او الحصول على شرعية منهم عن طريق التوافق، انتخابا او ترشيحا او استفتاء، او حتى بمنطق العشائر والقبائل التي تقوم بتقديم التاييد والمناصرة والولاء الذي يشتريه الحاكم بالعطايا والهبات، لقد اعتمد النظام على القوة والارهاب والترويع، للبقاء في الحكم وظن ان هذه الوسيلة التي ابقته كل هذه المدة كفيلة، عندما حصل التمرد وخرج الناس الى الشارع ضده، ان يقمعهم بالقوة والقتل والاعتقال والرصاص، لكن الوضع خرج على السيطرة، والرتق اتسع على الراتق، ولم يعد بد من الرحيل، فماذا يفعل اهل الحكم؟ لم يجدوا من سبيل امامهم الى الدفاع الى عن مواقعهم الى اخر رصاصة، ولا ادري ان كان سيتبقى امامهم وقت للنجاة بجلودهم بعد ذلك، لانه عندئد سيكون من الصعب ان يجد الواحد منهم منفذا، وعندما ينضب من جعبتهم الرصاص، وتنبض من كنانتهم النبال، فان الرصاص لن ينضب من جعبة الشعب، والنبال لا تنضب من كنانة المواطنين، لان اهل الحكم افراد مهما كثر عددهم، والشعب حشود حاشدة مهما قلت اعدادهم، ولذلك فان موارد الشعب تبقى دائما مفتوحة على امكانيات هائلة وليست مثل امكانيات الحاكم واعضاء بطانته، فالحسم سيكون لصالح الشعب في النهاية لانه هو الذي سيبقى والاخرون زائلون، ويجب ان ياحذ الحاكم الدرس من التاريخ، فقد مر على هذا الوطن اباطرة وقياصرة وقادة عظام ينتمون لامم كبرى، وامبراطوريات جبارة، ومر بهذه البلاد حكام من الشرق والغرب، اقوام من كل صوب وحدق وكل دين وملة، فينيقيين ورومان واغريق ووندال وفراعنة، مر به حكام اسبان وايطاليون وبريطانيون وفرنسيون وامم اخرى، وكلهم جاءوا وحكموا ولكنهم ذهبوا واندثروا ولم يبق في هذه الارض الا هذا المواطن، لم يبق الا الشعب الليبي، وقد حاربوه هم ايضا كما يحاربه الحاكم اليوم، ضربوه بالمنجانيق وبالمدافع وبالبوارج الحربية وقصفوه بالطائرات وجلبوا كتائبهم الى الصحراء يطاردونه فيها، ولكنهم انسحبوا وانسحقوا وانهزموا واندثروا ولم يبق الا الشعب الليبي، ويمكن لهذا الحاكم ان يذهب الى جدران المعابد في شحات او كهوف اكاكوس وتيبستي ليجد تاريخ الاحتراب والمنازلات بين الشعب وحاكميه، ومعارك يعود بعضها الى عشرة الف عام، فمن الذي بقى ايها الحاكم الاحمق الذي لا يتعظ من التاريخ ولا يقرا صفحاته الناصعة التي تقول بكل وضوح وجلاء ان هزيمتك هزيمة حتمية، وتقول ايضا بحتمية النصر للشعب، فارحل اذا شئت النجاة، والا فيمكنك البقاء لكي تواجه مصيرا ماساويا كما واجهه حكام كثيرون غيرك رفضوا ان ينصتوا الى حكمة الماضى وعبرة التاريخ.
www.ahmedfagih.com
[email protected]