قرأت في اكثر من لقاء صحفي دعوة ينادي بها احد رجال المعارضة الليبية السيد محمد بن غلبون، رئيس الاتحاد الدستوري الليبي، يطالب فيها المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا، بتبني دستور بداية الاستقلال، مع تحفظ على المواد التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، الى ان يجري الاستفتاء على ذلك في حينه، ودون ان يقول لنا السيد ابن غلبون، عن مبرراته لتبني هذا الدستور عدا كونه يفلح لطمأنة اصدقاء ليبيا وداعمي ثورة شعبها على مصالحهم المستقبلية، مستشهدا بتعليق للسيد وليام هيج وزير الخارجية البريطانية ورغبته في ان يرى صورة واضحة للنهج الذي ستنتجه البلاد مستقبلا، ومن الصعب فهم هذا المنطق، الذي ربما يعني اعطاء اولوية لما يريده الاصدقاء عن مصالح البلاد واهلها، فالاولوية دائما وبطبيعة الحال ينبغي ان تكون لاهل هذه الثورة وطلائعها ممن سطروا اروع البطولات وقدموا انبل التضحيات ومن خلفهم شعب عاني الويلات وتجرع غصص الاستبداد والطغيان وحان الوقت وحق الحق في ان تتمتع البلاد بدستور يضعونه هم، ويقطع الفرصة قطعا جازما كاملا على عودة الاستبداد في اي شكل من اشكاله التي مضى زمانها وحان دفنها واهالة التراوب والحجارة فوقها بحيث لا سبيل لان تطل براسها من جديد، وتفسد علينا عالم الغد كما افسدت عالم الامس، ويعرف كل من عاش تحت ذلك الدستور الذي يشير اليه السيد بن غلبون، انه كان تكريسا للاستبداد والطغيان، ولولا ان شخصية الملك المعروف بزهده وتقشفه وتقواه، قد امتنعت عن استغلال ما يتيحه له الدستور من حقوق، لكان قد فعل بنا اكثر مما فعله الطاغية القذافي بشرعيته الثورية الزائفة الكافرة الفاجرة التي لم تكن تعترف بدستور ولا قانون ولا ناموس من نواميس البشرية، وليتفضل وليقل لنا السيد محمد بن غلبون ان كنت اخطأت في حق الملك او حق الدستور الذي يطالب بعودته للحياة، عندما اقول انه تحت نظر وحكم وعلم هذا الدستور قام الملك بالغاء الاحزاب التي كانت موجودة بحكم القانون قبل وبعد الاستقلال وشاركت جميعها في معركة الحرية والكفاح من اجل نيل ذلك الاستقلال، وصادر املاكها ومقراتها وجمد ارصدتها وقام بنفي اكبر زعمائها مثل المناضل بشير السعداوي والمناضل احمد زارم وسلب الجنسية الليبية عنهما، وسجن شباب حزب المؤتمر امثال السيد على مصطفي المصراتي والمرحوم عمر مالك وغيرهما. وليقل لي السيد محمد بن غلبون ان كان ذلك الدستور قد منع الملك من حل البرلمان اكثر من مرة وبامر الدستور وما منحه من صلاحيات وطبعا تبع هذا الحل ممارسات غير دستوريه مثل تزييف الانتخابات ومنع بعض المرشحين المعارضين من ترشيح انفسهم مثل الشيخين محمود صبحي وعلى مصطفي المصراتي وايقافهما في الحجز حتى انتهى موعد الترشح، وربما حدث ذات الامر في مدن اخرى غير طرابلس مع مرشحين اخرين. ولا ادري ان كان السيد ابن غلبون يعلم ان تعذيب السجناء كان ممارسة يومية في سجون الملك، ودار العروسة المخصصة للتعذيب الوحشي كانت موجودة في كل سجن، وليسال كل سجين سياسي دخل سجون العهد الملكي ليخبره بحقيقة تلك الغرف، فهل منع هذا الدستور تلك الممارسات وهل يرى مثل هذه المعاملة مسالة يتوق الناس لعودتها وعودة الدستور الذي لم يكن يباركها ولكنه لم يكن يتضمن شيئا يكون صمام امان ضدها.
والحقيقة فان السيد ابن غلبون وصحبه في هذا الحزب يميلون احيانا الى تصوير العهد الملكي بانه كان الحلقة الذهبية المفقودة في التاريخ الليبي الحديث، وهو للاسف ليس كذلك، وكان عهدا عامرا باوجه التقصير والقصور وانتهاكات حقوق الانسان، ولم ينل شيئا من السمعة الطيبة في اذهان الناس الا عند مقارنته بما احتواه العهد الانقلابي الذي جاء بعده من سجل حافل بافظع الجرائم ضد الانسانية.
ويعلم السيد محمد بن غلبون لقربه من الملك السابق، رحمه الله، ما حدث من عبث في شؤون الدولة، واستجابة الملك لبعض دوائر الضغط، مثل اسرة المرحوم ابراهيم الشلحي، ومصالح اعضاء هذه الاسرة وتوكيلاتهم، مما ساهم في افساد الحياة السياسية و كان له ابلغ الاثر في التعجيل بزوال ذلك العهد عندما كان الملك يصدر مرسوما ملكيا بتاليف الحكومة ثم لا يمهلها غير بضعة شهور حتى يقوم باقالتها وتاليف وزارة جديدة وهو ما حدث مع وزارات عبد الحميد البكوش التي تفاءل بها الناس ووزارة عبد القادر البدرية التي لم تدم غير بضعة اسابيع بل ولم يستطع ان يصبر حتى على وزارة واحد من اكبر اعوانه واكثر الناس كفاءة واقتدارا الاستاذ حسين مازق، وهو ما تواتر وتكرر في الفترة الاخيرة من العهد الملكي حتى صار امر هذه المراسيم موضع استهجان واستهزاء الدوائر الدبلوماسية والسياسية في الخارج والداخل، ومهد الارض لميلاد النظام الانقلابي العسكري البوليسي الاجرامي الدموي، فهو نظام تكون وتخلق في رحم النظام الملكي باسلوبه البائس في الحكم ودستوره الهزيل الذي جيره السيد ادريان بيلت المندوب الاممي لصالح القوى الاجنبية التي عهدت اليه بالمهة.
ثم ليقل لنا السيد ابن غلبون ان كان ذلك الدستور الملكي قد حال دون ما حدث من انتقاص لسيادة الدولة، وعبث باستقلالها عندما تم تكبيل ليبيا بالمعاهدات الظالمة التي اباحث اعطاء قواعد عسكرية لكل من بريطانيا وامريكا وبشروط مجحفة في حق الليبيين، يمكن التوسع في شرحها اذا اقتضى الامر.
ويمكن احالة الاخ ابن غلبون الى دراسة كتبها احد القانونيين المتخصصين من ابناء ليبيا لمثالب هذا الدستور وما حفل بيه من عيوب وما شابه من اوجه القصور
هو السيد الدكتور يوسف البخبخي على هذا الرابطاضغط هنا

واخيرا اقول للسيد بن غلبون، لقد مضت الان اكثر من ستة عقود على صياغة ذلك الدستور ومضت اكثر من اربعة عقود على بقائه معطلا، وقد حصلت خلال هذا الزمان تطورات كبرى اجبرت دولا وقوى عالمية على احداث تعديل في دساتيرها، ان لم يكن الغاء واستبدال ما لديها من دساتير، دعك مما شهده المجتمع الليبي من تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية، فقد ظهر ذلك الدستور في وقت لم تكن فيه امراة ليبية واحدة موجودة في الحقل السياسي او امراة واحدة شاركت في لجنة الستين التي قامت بالدور الاستشاري للمندوب الاممي اثناء صياغته او امراة واحدة شاركت في البرلمانات والمجالس التشريعيةعلى مستوى الولايات او المستوى الفدرالي، قبل واثناء العمل بهذا الدستور، فما هي الحكمة ايها السيد الفاضل في العودة الى مثل هذا الدستور، علما بان صياغته تمت عن طريق خبير مشبوه في امانته وصدق توجهاته الخاصة بمستقبل البلاد، وممثلين للشعب لا نشك في نزاهتهم وامانتهم وولائهم لبلادهم ولكننا نعرف تواضع تعليمهم عدا قلة قليلة منهم، وفي وقت كانت تعاني فيه البلاد من امية تبلغ 95% من جملة سكانها، ولم افهم ما ورد في احدى المقابلات الصحفية التي قال فيها ان تبني هذا الدستور من قبل المجلس الوطني سيساهم في تامين مكان للمجلس في الامم المتحدة، فمثل هذا المقعد يقتضى استقرار الوضع وسقوط النظام السابق ووصول الثورة الى العاصمة واعلان قيام الدولة الجديدة من هناك.
واقول للسيد رئيس الحزب الدستوري اننا نكبر فيه حقيقة اشهاره للدستور ورفعه شعارا لدولة كان زعيمها يجرم اي حديث عن الدستور، واقول له ايضا ان الثورة لم تقم في ليبيا الا من اجل بناء دولة الدستور والقانون، وانهاء عهد همجي استبدادي، استباح الحرمات واستهان بالعهود والنواميس والمواثيق، وليس في ماضي العهد الملكي، ما يجعلنا نطمح لاسترجاع مواثيقه، او نتطلع لاحياء سياساته، وهي سياسات لا نريد اليوم ان نحاكمها بمقاييس زماننا، لانها ابنة ظروفها واطارها التاريخي والمكاني، ولكنها قطعا متخلفة عقيمة بمقاييس عصرنا الحديث، وما عرفه من فتوحات في الحريات العامة والخاصة وحقوق الانسان.
ودعنا ايها الاخ الفاضل، لا نلتفت الى الوراء، ولا ننشغل بالماضي، فالمستقبل اولى ان ننشغل به وان نعطيه كل اهتمامنا وجهدنا وانت بالتاكيد على قدر من الفهم والادراك يجعلك تؤمن بالمسئولية التاريخية التي يعنيها صياغة دستور لبلادنا وهي مسئولية ثقيلة نحملها جميعا في اعناقنا ازاء حاضرنا ومستقبل بلادنا وازاءاجيال من الابناء والاحفاد من ولدوا ومن سيولدون، فلنكن جميعا على مستوى المسئولية.