لأقل بداية انه ليس هناك مجتمع محصن من ظهور الطاغية، فقد خرج الطغاة في مجتمعات صناعية متقدمة مثل المانيا وايطاليا، ومجتمعات زراعية متخلفة علميا وصناعيا واقتصاديا مثل كامبوديا، ومجتمعات في حالة تحول من مجتمعات زراعية اقطاعية الى مجتمعات صناعية مثل جمهريات الاتحاد السوفييتي في النصف الاول من القرن الماضي، وبعض مجتمعات الكتلة الشرقية فيما بعد، وطبعا مجتعات افريقية على درجة كبيرة من الفقر والتخلف مثل اوغندا وافريقيا الوسطى والصومال، فالحصانة اذن يجب ان تكون في النظام السياسي ونظرية الحكم التي يتبناها المجتمع، ودرجة من التعليم والمستوى المعيشي، يحميان الديمقراطية ولكنهما لا يمنعان السقوط في الطغيان احيانا، فانظمة الحزب الواحد كانت اكثر عرضة لظهور الطاغية من الانظمة ذات التعددية الحزبية وهكذا، ولكن مع عمومية الظاهرة اي ظاهرة الطاغية واحتمال وجود ظروف لانتاج الطغاة في كل مناطق الدنيا، فان درجة من الاختلاف تفرضها طبيعة وثقافة المجتمع، وقياسا على ليبيا فلم يكن ممكنا لحاكم باسلوب وثقافة وسلوكيات معمر القذافي الا ان يكون مواطنا ليبيا مصبوغا بشيء من اثار المجتمع الليبي، تغذي على هواء وشمس صحاراه، واقتات طعامه وشرب شرابه ممزوجا بذرات رمال تلك الصحارى، وهو كما نعرف مجتمع يضرب بجذوره في عمق البيئة البدوية الرعوية شبه الزراعية، وقد جاء الحاكم الليبي من اكثر مناطق هذه البيئة فقرا وتخلفا بل من قاع هذه المجتمع الرعوي الصحراوي واكثر مستوياته تدنيا، لان مجتمع البداوة مجتمع تحكمه تقاليد طبقية فهناك ما يمسى البيوت الكبيرة وهي التي يعزى اليها بعض الخصال الحميدة مثل حماية المستجير بها، واكرام الضيف ونجدة المظلوم وغيرها ولكن المستويات الدنيا التي غالبا ما تعيش على الاحسان فانه ليس لها امكانية المحافظة على مثل هذه التقاليد فحال الناس هناك هو حال البدوي الذي يصفه ابو الطيب المتنبي في بيته الشهير:

لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليصلح النطق ان لم يصلح الحال


وطبعا هناك صعوبة ايضا في اصلاح النطق لان هذا المستوى المتدني غالبا لا امكانية له للحصول على قسط من التعليم بما في ذلك التعليم الديني يصلح به نطقه وهو امر لا يشكل اية نقيصة في الانسان، ولا يضيره اطلاقا ان يكون منبته منبتا بهذا التواضع، بل هو بالنسبة للانسان السوي، مصدر ثراء وغنى وقوة لانه استطاع رغم الفقر والمنزلة المتدنية ان يشق طريقه بعصامية واجتهاد حتى يصل الى اكمال تعليمه وتحقيق ذاته ثم وجوده في مرتبة عالية كالتي وصلها السيد العقيد معمر القذافي، ولكن طبعا، كل هذه الجذور التربوية وسط هذا المحيط وهذه البيئة يتحول الى طاقة سالبة ضارة وهي تغذي ما لديه من مركبات النقص او مركبات العظمة وامراض البارانويا والشيزوفرينيا وغيرها مما يعزوها الباحثون النفسيون لامثاله من الطغاة السايكوباتيين الذين لايردعهم رادع عن قتل شعوبهم بلا شفقة ولا رحمة واستخدام الالة العسكرية لمواصلة هذا القتل بشكل قل وجود نظائر له في العصر الحديث وعودة للمتنبي فانه كان يستكثر على من جاءوا من مثل هذه البيئة اشخاصا او عشائر ان يكونوا حكاما كما يقول في واحد من ابياته:

أرادت كـلاب أن تفـوز بدولـة
لمن تركت رعي الشويهات والإبـل

ولقد كتبت في مقالين سابقين عن ظاهرة الاتباع، الذين يسيرون نياما خلف الطاغية في بغيه وعدوانه وضلاله ويقومون بتنفيذ ما يامر به من اجرام وانحراف، واتيت على بعض الحلقات من المنتفعين والمتربحين وضعاف النفوس وصولا الى تلك الفئة المقهورة التي انساقت وراءه بحكم العادة والروتين واستجابة لعوامل الخوف والقهر وبرامج السيطرة والتدجين.و ضربت مثلا بما يحدث في هذه الايام في كل من ليبيا وسوريا، حيث يوجد رئيسان يقتلان شعبيهما ويجدان من الاتباع والمناصرين من ينفذ لهما هذا القتل، كما ييجدان جماهير اخرى تباركه وتخرج في الشوارع بعشرات الالاف تعلن عن تاييدها ومناصرتها لهذا الحاكم القاتل، واقول ان هذه الجماهير التي تنتصر لقاتلها ضد اناس يدافعون عن كرامتها، ويضحون بحياتهم من اجل تحريرها من قبضة هذا الطاغية وظلمه واجرامه وعمليات القتل والتصفية التي يقوم بها ضدهم، لم تولد من فراغ وانما جاءت نتيجة صناعة الطاغية لها وتغييبه لوعيها واحلال الرعب والخوف والترويع مكان هذا الوعي، وساقف قليلا عند الحالة الليبية باعتبارها مثالا لهذه الحالة التي ينجح فيها الطاغية في صناعة جمهور من الاتباع واخضاعهم لسيطرته كما يفعل خبير التنويم المغناطيسي مع تابعه في العروض الفنية التي تقدم على المسارح، ويحيلهم الى عبيد خاضعين لسطوته وجبروته، وهي حالة اخرى غير الحالة التي يصنع فيها الشعب الطاغية، لا اراها صالحة هنا، فقد عرف الشعب الروسي لينين وستالين قبل وصولهما الى الحكم، وعرف الشعب الصيني ماوتسي تونج وخاض معه غمار حرب التحرير قبل ان يكون رئيسا مستبدا، كما عرف الشعب الايطالي بينيتو موسيليني لمدة عقدين قبل زحفه على روما، وعرف الشعب الالماني هتلر منذ ان بدا انشاء حزبه النازي و دخوله السجن من اجل ما يؤمن به قبل وصوله الى سدة الحكم، محمولا على اعناق الجماهير، مكتسحا صناديق الاقتراع ضد منافسيه، بالنسبة لليبيا وكما في اي انقلاب عسكري، فان القذافي وصل الى سدة الحكم بلا اسم ولا تاريخ ولا سجل نضالي او غير نضالي فقد كان كما مجهولا لا ملامح له.
اوصلته دبابة الى الاذاعة ليقرأ بيانا ويحل محل الملك المخلوع، وبقى ربما لمدة اسبوعين وهويحكم البلاد دون ان يعرف الناس اسمه، وعندما عرفوه اخيرا عرفوا ايضا انه الرجل الذي قرا البيان الاول للانقلاب يعدهم فيه بالعدل والخير والامان والحرية، وانتظروا ان يخرج عليهم بشحمه ولحمه وهو يلقي خطابا ينقله التلفاز وسط حشد من الجماهير يوم 16 سبتمبر ( ذكرى استشهاد عمر المختار) اي بعد ستة عشر يوما من وصوله
ا لى الحكم.
وبدا يمارس الحكم باسم مجموعة صغيرة من زملائه الضباط اسماهم مجلس قيادة الثورة يبلغ عددهم احدى عشر عضوا، واتضح فيما بعد ان المجلس كان في الاصل وقبل نجاح الانقلاب، سبعة اشخاص ولكي يضمن لنفسه اغلبية على الاعضاء الاصلييين اضاف اربعة اعضاءمن الامعات الموالين له ولاء اعمى، بحجة ان هذا العدد هو الذي حكم به عبد الناصر عندما اعلن ثورته في مصر، وبدا زملاؤه القدامي يرون وجها جديدا للشاب الخجول المهذب الملتزم باداء الفرائض الدينية الذي يعرفونه، الى حد ان اقربهم اليه والذي كان يعمل سكرتيرا للمجلس ملاصقا للقذافي واسمه مختار القروي، بادر بالانسحاب بعد مرور عام ونيف، لما احسه من مهانة متعمدة تاتيه من القذافي وغادر الحكم نهائيا، وبدا القذافي يناى عن هؤلاء الاعضاء ويحيط نفسه بدائرة تدين له بالولاء وكان يهمل دعوة هؤلاء الاعضاء للاجتماع واذا اصروا يتظاهر بانه سيستقيل مهددا بانهيار مشروع الدولة التي انتقلوا فيها من ملازمين وضباط صف الى مرتبة اكبر من الوزراء، واصبح كل هؤلاء العسكريين ممن عاونوه على الوصول للسلطة يملكون القصور والمزارع وصارو بين ليلة وضحاها، حكاما يتمتعون بالجاه والسلطان، فكان يهرع الجميع اليه لكي لا يستقيل او تضيع عليهم هذه النعم التي اسبغها عليهم، فهو كان يقايض هؤلاء الضباط وصف الضباط بالثراء والمركز الاجتماعي والمركز الحكومي ولكن عليهم ان يتركوا السياسة وادارة البلاد له وحده، وهو ما صار مقبولا ومرحبا به من اغلب اعضاء التنظيم العسكري الذي صنع الانقلاب، ولكن التصفيات بدأت مبكرا جدا عندما تحرر بعد ثلاثة او اربعة اشهر من كل من يفوقه رتبة من الضباط المشاركين في الثورة وبينهم اثنان هما ادم الحواز الذي صار وزير دفاع وموسى احمد الذي صار وزير داخلية عشية الانقلاب، وبعد اشهر قليلة كانا في السجن مع عدد كبير من العسكريين في اول التصفيات ورغم قوة الاحكام التي اصدرتها عليهم محكمه عسكرية صورية وبلغت حد السجن المؤبد، فقد فبرك رئيس دولة الانقلاب مظاهرات تسير في الشوارع تقول ان الشعب يطالب بالاعدام، رغم ان هذا الشعب لم يكن قد شاهد هذه المحاكمات في التلفاز، او نقلت عنها تحقيقات في الصحف، ولا يعرف شيئا عن الظروف التي ادت الى المحاكمة وصدور احكام المؤبد التي راها قليلة على المتامرين، اقول ان هذه كانت التمارين الاولى على تسخير الناس للخروج في مسيرات خدمة للطاغية وتمكينه من ممارسة استبداده، تهتف باسمه وتدين له بالولاء وتناصره ظالما او مظلوما،وهي مسيرات تكررت كثيرا في تلك الايام وكانت اغلبها تخرج لمطالبة الاخ العقيد بالعدول عن الاستقالات التي كان يرميها في وجوه رفاقه في الانقلاب عندما يحاولون الاعتراض على بعض تصرفاته او قرارته التي ينفرد بها ولا ياخذ رايهم فيها، واذكر ان احدى هذه المسيرات قادها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وكان في قمة شعبيته وشاركه الناس في الاعتصام امام معسكر القيادة، قائلا بانه لن يتحرك حتى يعدل العقيد عن استقالته، اما اقوى الخبطات في تكريس حكمه الفردي وانسلاخه من قيود المجلس العسكري وغيره من قيود فقد جاء ذلك في منتصف العام الرابع للانقلاب عام 1973 وفي ذكرى المولد النبوي الشريف عندما اقام احتفالا بالمناسبة في البلدة الحدودية زوارة، قائلا لهم انه جاء هنا هاربا من العاصمة طرابلس التي تضج بالسفارات وما فيها من جواسيس واعداء، ليقود من هنا مرحلة جديدة تدخلها الثورة كما يسمى انقلابه العسكري، واعلن ما اسماه النقاط الخمس، لكن الناس قاموا بتحريفها الى النكات الخمس، وكانت كذلك فعلا لان اولها كان نكتة سوداء تجرع محنتها الشعب الليبي وهي تقول: ــ (( تعطيل القوانين المعمول بها الان واستمرار العمل الثوري))
وبذلك صار الرجل متحررا من اي مادة قانونية تمنعه من تنفيذ افكاره الشاذة ونزواته المنحرفه لانه لم يعد هناك من يجرؤ على ردعه اويقول له ان هذا الامر مخالف للقانون مهما كان اجراميا، منحرفا عن الطبيعة السوية، وكانت النقطة الثانية تعتمد في تطبيقها على النقطة الاولى وهي التي تقول: ـــ (( الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لاعداء الشعب ))
ولا احد غير قائد الانقلاب يستطيع تسمية من هم هؤلاء الاعداء، فقد جعل نفسه المجسد لارادة الشعب، ومن يراه عدوا له فهو عدو للشعب، والحقيقة فانه في تلك المرحلة المبكرة من عمر الانقلاب لم يكن هناك خصوم ولا اعداء له، واذا كان ثمة من يعتبره خصما من اركان النظام القديم، فهو موجود خلف القضبان، بل ان محكمة الشعب في ذلك العام وهي التي تحاكم رموز العهد القديم لم تكن قد انتهت فصولا، فمن هم هولاء الاعداء الذين سيحرمون من حريتهم؟ ليس مهما، فالطاغية قادر على صناعة الاعداء من لاشيء، وقد جاء من مجال عسكري، يسهل فيه دائما صناعة عدو وهمي ووضعه فوق الهضبة المقابلة لتسهيل اقامة المناورات ودروس التدريب العملي، وهكذا قام في اليوم التالي بالقبض على عدد من السياسييين والمثقفين اعتمادا على ملفات الشرطة في العهد الملكي المنهار، وهي قوى كانت تبحث عن خلاص تحت مظلة النظام القديم وعندما انتهى ذلك النظام، انهت نشاطها السياسي واعلنت انضمامها تحت لواء الانقلاب، ومع ذلك فقد قام بجلب كل هولاء الناس على مختلف الانتماءات، خاصة ممن كانت لهم محاولات تشكيل احزاب مثل الاخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي وحزب البعث والحزب الشيوعي وربما القوميين العرب وغيرهم فرمى بهم في السجون واخضعهم جميعا للتعذيب، وهو تعذيب ليس لاغراض التحقيق وانما مهانة وترويع وتحكيم لسيطرته على هذه الفئات من النخب السياسية والثقافية.
وعودة الى النقاط الخمس فالثالثة كانت الحاقا للثانية وهي عمن اسماهم المرضى وضرورة علاجهم بمعنى اصحاب الولاءات الحزبية وحملة ما اسماه بالافكار الهدامة او رآه كذلك، والنقطة الرابعة هي الثورة الادارية التي امر بموجبها العاملين في المؤسسات والشركات والادارات الحكومية بالثورة ضد المدراء وانشاء لجان شعبية تديرها وهي التي بموجبها صار الممرضون يديرون المستشفيات وصارالطلبة والمباشرون والبوابون يديرون المؤسسات التعليمية الاولوية والمتوسطة والجامعية لتكون هذه اللجان بداية التخريب لكل المؤسسات التي تدير الدولة في جانبها المدني، اما النقطة الخامسة فكانت الثورة الثقافية التي بموجبها تم الهجوم على المكتبات الخاصة والعامة وصنع جبال من الكتب وحرقها (وكان من ضحايا الاعتقالات ومصادرة الكتب التي يملكها، فيلسوف عربي تصادف وجوده استاذا في الجامعة الليبية، هو الفيلسوف الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي سجل في مذكراته ما حدث له، لتبقى كلماته لعنة تلاحق تلك الجرائم التي ارتكبها النظام ورئيسه بحق الفكر والثقافة) وكانت هذه النقاط التي وردت في خطاب زوارة، بداية الحرب التي شنها على القوى الاجتماعية التي يمكن ان تشكل تهديدا له، وعلى رأسها النخب الثقافية والسياسية على مستوى القاعدة الشعبية، لعزل هذه القواعد عن قيادتها وتعطيل فعالية المؤسسات الثقافية والسياسية التي يمكن ان تعمل من خلالها، قبل ان يتفرغ فيما بعد لتصفية القيادات تصفية معنوية وجسدية لازاحة اي معارضة لحكمه، وواصل استخدام التصفية والقتل والاعتماد على الترهيب والترويع لاخضاع الناس لسيطرته دون ان يغمط الثروة التي يملكها حقها، فقد ظل يسعى حثيثا الى الاستفراد استفرادا كاملا بثروة النفط الليبي، لكي يضعها كاملة تحت تصرفه الشخصي، يشتري بها الولاء في الداخل ويشتري بها المواقف المؤيدة له في الخارج، ويصنع بها دعاية لنفسه تضفي عليه هالة كاذبة لا يملكها،وهو ما ساعده، هذه الايام، وفي لحظات الفرز والمواجهة، التي اعقبت ثورة الكرامة والحرية التي قادها ضده ابناء الوطن الشرفاء، ان يجد من صفوف الناس ممن بقوا تحت تأثير رعبه وترويعه او الاخرين الذين اكتسب ولاءهم بسبب المزايا التي اغدقها عليهم، يقدمون له ما يحتاجه من تاييد ومناصرة، كما لم يكن غريبا بعد ظهور البشاعة التي يرتكب بها جرائمه وانحراف شخصيته، ان يجد ازلاما في الداخل والخارج يشيدون بجمال ملابسه وروعة صولجانه بينما هو يقف عاريا وسوآته معروضة امام العالم بلا صولجان ولا هيلمان ولا قطعة قماش تستر محاشمه، تماما مثل قصة الملك العريان في الاسطورة،الذي تفننت الحاشية واركان النظام في وصف ما يرتديه من ملابس، الى ان جاء الطفل، رمز البراءة والنقاء والصفاء يكشف كذبهم ويشير ضاحكا الى حقيقة ان الملك كان عاريا، وللحديث صلة.
[email protected]
www.ahmedfagih.com