عندما تم تطبيق تحريم الرق في ليبيا في منتصف القرن التاسع عشر، وارغم من يملكون رقيقا على عتقهم، خرج اولئك الارقاء الى الشوارع يهيمون على وجوهم لا يدرون ما يفعلون بانفسهم، تم تجمعوا امام السرايا التي يسكنها الوالى في العاصمة طرابلس، وصاروا يصرخون ويهتفون مستنجدين به لكي يعيدهم الى بيوت اسيادهم، ويرفعون له عرائص الاحتجاج يكتبها لهم اهل الخير ممن يعرفون القراءة والكتابة يطالبون الغاء هذا القانون الذي يحرم الرق لكي يتيح لهم من جديد فرصة الحياة في اكناف اسيادهم وسيداتهم من اهل البيوتات الكبيرة،ولعل شيئا من هذا القبيل حدث في بلدان اخرى، لان هؤلاء الارقاء الذين ولد بعضهم لارقاء من الاباء والامهات في بيوت هذه العائلات التي تملكهم لم يعرفوا طعم الحرية ولا يقدرون قيمتها ولا يجدون لانفسهم مكانا الا تحت اقدام وسياط اسيادهم، وربما يفسر مثل هذا السلوك لارقاء العصور السالفة، السلوك الذي نراه باديا في ارقاء هذا العصر، ممن عاشوا تحت نعل الطاغية وتمترسوا بهذا المكان لا يرتضون له بديلا.
وسبق ان قدمت شرحا في مقالي السابق quot;عصابات لا حكوماتquot; عن هذه الفئات التي تناصر الطاغية، وقسمتها الى اربع فئات، اثنان منها تربطها منافع ومصالح وصلات عشائرية وعائلية وهي جزء من الطاغية، تجمعها به علاقة قدر ومصير، ولدوا معا ويموتون معا، وفئة ثالثة ربما تقع تحت الظروف الجبرية القاهرة والارغام والسيطرة، وفئة رابعة وهي الاكبر والاكثر انتشارا، من المتطوعين الذين لا تربطهم منافع ولا مصالح الا علاقة العبد بسيده، فهم بؤساء، تعساء، يعانون من قهر الطاغية كغيرهم من ابناء الشعب، وفي حين كان وضعهم مفهوما ومعلوما ومبررا في حالة وقوع الشعب كله تحت السيطرة والقهر وحكم الرعب والارهاب، فقد اختلف هذا الوضع عندما ثار الشعب، واستطاع بعد اربعة عقود كما في الحالتين الليبية والسورية، مستسلما لمصيره القاتل، ان ينتفض وان يجد من ابنائه من يقوم بدور المفارز الفدائية الانتحارية التي حطمت بوابة الخوف واقتحمت اسوار السلطة تهدها، بل ووصلت في الحالة الليبية الى الاستلاء على المعسكرات والسلاح، لتواجه الطاغية وتثور عليه وتنتزع النصر انتزاعا وتمضي في مسيرة لتحرير الارض شبرا شبرا حتى تنتهي الى دك الحصن الذي يحتمي به فوق راسه، هنا كان مفهوما وواضحا اصطفاف ازلام النظام مع رب نعمتهم، والدفاع عنه حتى لو اقتضى هذا الدفاع التضحية بالارواح في سبيله، لان البدائل معدومة امامهم فهم مع الطاغية في الحياة والموت، اما اولئك البسطاء المحرومون، ضحايا الظلم والقهر فلم يكن هناك من طريق واضح الا التحاق بالثوار ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، واذا تعذر هذا الالتحاق وظلوا في مناطق يسيطر عليها النظام كما في طرابلس الان، فلا اقل من الصمت والامتناع عن المبادرة بمعاونة الطاغية تطوعا ودون جبر وارغام كما يحدث مع الكثيرين في ليبيا وسوريا، وانا هنا اتحدث عن اناس اعرفهم، يخرجون الى الشوارع يتظاهرون ويهتفون باسم الطاغية ويؤيدون النظام ويرفعون اعلامه ويرقصون في مهرجاناته، تطوعا دون ان يجبرهم احد على اتخاذ هذا الموقف، بل اكثر من ذلك فداحة راينا اناسا يعيشون في الخارج بمنآى عن سيطرة النظام في عواصم مثل لندن وباريس والقاهرة يخرجون في مظاهرات تناهض وتعادي المظاهرات التي يقوم بها انصار الثورة معلنين اصطفافهم مع الطغيان، ولعل بعضهم كان مدفوعا ومأجورا، ولكنني اعرف شخصيا عددا من هؤلاء المؤيدين للنظام ليسوا بسبب اجر او دفع او ارغام وانما عن تطوع ورضا، ومن طرائف المفارقات انني التقيت باشخاص اعرفهم واعرف موقفهم المناهض سرا للنظام وقت عنفوانه، وقبل بدء الاحداث المناهضة له، وكيف كانوا يجأرون بالشكوي من ضلاله وانحرافه وظلمه وطغيانه، وهرعت عندما التقيت بهم بعد الثورة اخذهم بالاحضان واهنئهم بالانتفاضة الشعبية ضد الطغيان، فاذا بهم يستقبلونني ببرود وجمود، لان موقفهم الحالي كان مناقضا ومعاكسا لما سمعته منهم من اراء وما رايته من مواقف، وقد اختاروا وبرغم ما يعرفونه عن جرائم النظام وما كانوا انفسهم يقولونه عنه، ان يصطفوا في معسكره لا معسكر الثوار.
ويمكن القول في حالات كثيرة غير الحالتين الليبية والسورية بالذات ان هناك تضليلا اعلاميا خضعوا له، وحجبا للمعلومات منع الصورة الحقيقية من ان تصل لهم، ولكن في الحالتين الليبية والسورية، ومهما ادعى الانسان الغفلة، او الجهل بما يحدث من مظالم وما يرتكبه النظام من جرائم، فقد وصل الامر في الايام الاخيرة الى ان تصبح هذه الجرائم موضع احتجاج عالمي لان مشاهد العنف ضد الشعب ومشاهد القتل والاجرام موجود فوق كل الشاشات ومنشورة في الصحف وقد تم توثيقها بالصوت والصورة والالوان في الانترنيت، وفوق هذا وذاك فهو اجرام مدموغ ومدان على مستوى كل الهيئات الدولية، وفي الحالة الليبية وصل الامر بان تصبح هذه الجرائم موضع لوائح اتهام ومذكرات قبض من قبل المحكمة الدولية الجنائية لرأس النظام واعوانه، وفي الحالة السورية الى الكشف عن مقابر جماعية لعائلات تضم رجالا ونساء واطفالا من الشعب السوري موجودة ومعروضة على شاشات التلفاز، فهل يجوز بعد ذلك ان نتحدث عن الجهل والغفلة وعدم العلم بهذه الجرائم من قبل هؤلاء المواطنين الليبيين والسوريين المؤيدين لاجرام الحكام والمطالبين ببقائهم على راس السلطة، من هنا كان لابد من البحث في جوانب اخرى تفسر سلوك هذه الفئات من الناس، وهي جوانب كثيرة ومتداخلة ومركبة، نبدا باكثرها وضوحا وهي استمرار حالة الغيبوبة التي كانوا يعيشونها قبل الثورة التي تفجرت ضد الطغيان، وعجزوا عن سماع نداءات الثورة، ورؤية الفجر الجديد القادم، مستمرين في تماهيهم مع الطاغية، لان هناك نوعا من البشر يسبغون صفة الشرعية على صاحب السلطة مهما كانت الوسائل التي جاء بها غير شرعية فهناك تراث قديم يعزز هذا الفهم، منذ ان كانت القوة وليس الاحتكام للشعب هي مصدر السلطة، فالسلطة اية سلطة وفي اية مكان بمجرد استلامها واغتصابها تمنح صاحبها حق السيطرة والتوجيه، انه يصح على مستوى الدولة كما يصح في حالات اخرى على مستوى عصابة من عصابات المافيا او جماعة دينية او جماعة سياسية احيانا علنية او سرية، لان الرابط هنا ليس رابطا منطقيا وانما رابط انفعالي عاطفي يربط مثل هؤلاء الناس برجل السلطة فيسيرون وراءه مغمضى العيون كما يفعل السائرون نياما او تاثير التنويم المغناطيسي الذي يغيب العقل والذاكرة والارادة. وبغض النظر عن شرعية هذه السلطة التي يتطلبها نظام الدول، فان هناك اناسا ينجذبون للسلطة ويستجيبون لها لمجرد انها سلطة، ويرون لها اشعاعا يستقطبهم كما يستقطب النور الساطع تلك الكائنات الدقيقة الطائرة حتى لو احرق اجنحتها وتساقطت ميتة، ويربط بعض الذين كتبوا عن اتباع هتلر ومؤيديه المتحمسين له في كل ما يقوله ويفعله، ينفذون له جرائمه ويستجيبون لنزواته المجنونه، بما يسمونه الكاريزما التي يتمتع بها القائد حتى لو كان طاغية مثل هتلر والجاذبية في اسلوبه وخطاباته وشخصيته التي تسحر الناس فيعقون دون وعي وتفكير تحت سيطرته، ولكن من الصعب ان نجد مثل هذه الجاذبية الخاصة او هذه الكاريزما عند هذه الهتيلرات العربية الممسوخة، بل هناك ما هو ضد الكاريزما وضد الجاذبية عند بشار الاسد وعلى صالح و معمر القذافي وقبلهما عند صدام ومبارك وبن علي، الا اذا اعتبرنا السلطة نفسها هي هذه الحالة البديلة لكايرزما الحاكم. ولاقل استكمالا لهذاالجانب ان هذا الاستمرار في السير وراء الطاغية حتى اثناء ازمته وانهياره،يمثل ايضا حالة من البلادة، وليس فقط الاستجابة لعوامل الاذلال والخنوع، انها بلادة في الحس الذي صار عاجزا عن الاستجابة لهذه المنبهات التي تشير لقرب الخلاص والانعتاق والتحرر، وهو ما يظهره الفرق بين هؤلاء الناس وبين غيرهم من ابناء الوطن، تعرضوا مثلهم لنفس القمع والقهر والظلم ومع ذلك استجابوا لحسهم الانساني الطابيعي الذي يرنو للخير ويتطلع للحرية فاستجابوا لنداء الثورة وانطلقوا ينتزعون حقوقهم انتزاعا من بين براثن الطاغية. وفي الحالتين الليبية والسورية فان التعامل الوحشي الذي تعامل به النظام مع العناصر الثائرة ايقظ حالة من الفزع والرعب وايقظ مخزون الخوف الذي تراكم لدى هؤلاء الناس من اتباع وامعات النظام، طيلة اعوام الاسترقاق له، والارتهان لجلاوزته وجلاديه والحياة تحت سطوته وجبروته وظلمه، فهرعوا لاثبات الولاء واعلان براءتهم، و لم يكن ممكنا في هذه الحالة ومهما كان نداء الثورة قويا ومهما كانت بشائر الانعتاق والتحرر واضحة فان الانتباه اليها والاستجابة لندائها لم يكن واردا كما كان عند اهل الحس الانساني السليم، وهو ما كان يدركه نظام الطغيان في ليبيا على سبيل المثال، لان النظام وقد راى ما حدث من انهيار لنظامين عربين قبله هما التونسي والمصري، كان واعيا بمثل هذه الاستجابة لنداء الثورة التي يمكن ان تحدث في قلوب الارقاء والعبيد من اتباعه، فامر بان تختصر المراحل التي يمكن ان تعطي المواطن فرصة للتفكير، وذلك بالغاء استعمال خراطيم المياه لفض المظاهرات او استخدام القنابل المسيلة للدموع او الرصاص المطاطي وانما يبدا التعامل فورا مع اية بادرة تظاهر بالرصاص الحي وقنابل الاربي جي ومضادات الدبابات والطيران لقتل البشر، لكي يقضي على اية مظاهرة في الدقائق الاولى لخروجها ويقطع الفرصة على خروج متظاهر جديد. وهو ما حصل في طرابلس.ولابد ان يكون للموضوع بقية لانه اكبر من ان يعالج في مقال واحد.
- آخر تحديث :
التعليقات