د.احمد ابراهيم الفقيه

مما يروى عن الشاعر الليبي الجميل والراحل الجليل حسن صالح رضوان الله على روحه، انه في ذات يوم، وكان جالسا في بيته، مع اسرته يشاهدون التليفزيون، ان خطر عليه خاطر مفاجيء، اوحت به له المادة التي يذيعها الجهاز، فاستأذن زوجته واطفاله، فيما سيفعله، وبعد ان اخذ منهم الاذن، قام يحمل جهاز التلفاز بين يديه، وتحامل على نفسه حتى اوصله الى شرفة الشقة الموجودة بالدور الثالث، ونظر اسفل الشارع ليتأكد من خلوه من المارة، وقذف بالجهاز ليهبط حطاما فوق الرصيف.
حدث هذا في ختام عقد السبعينيات، ولم تكن الاختراعات الحديثة التي تنقل المحطات الفضائية عن طريق الاقمار الصناعية قد ظهرت الى الوجود، فكان التلفاز لا ينقل الا محطة واحدة، هي المحطة الليبية، التي يحتلها السيد العقيد منذ لحظات ارسالها الصباحي الى اخر ساعات الارسال الذي ينتهي قبل موسيقى الختام بنشيد على دربك طوالي يا قائد ثورتنا، على دربك طوالي، مصحوبا بمشاهد تظهر صورة هذا القائد في لقطات اشبه بالفيديو كليب التي تتميز بسرعة التغيير، ليظهر مرتديا كل انواع الملابس الشاذة والغريبة من عسكرية ومدنية وافريقية واسيوية وشعبية فلكلورية الى اخرى لا هوية لها ولا انتماء الا للعته والجنون يتجلى واضحا في مظهرالرجل وازيائه، محفوفا في كل الصور بحارساته ذاوت الالوان المختلفة سوداوات وشقراوات وقمحيات، ومن امامه الحشود الحاشدة من مختلف الاقوام في سرادقات وساحات وتتخلل الاغنية الهتافات الهستيرية التي تشبه العواء، فكان الفعل الذي قام به الشاعر في حقيقته فعلا رمزيا لتحطيم الهيمنة التي يمارسها هذا العقيد على الاجواء الحميمية لكل اسرة ليبية وداخل كل بيت ليبي من خلال هذا الاختراع، الذي كان انجازا من انجازات العصر للترفيه والتسلية واجزاء الفراغ فجعله العقيد بحماقته وجنونه مصدرا للتوتر واداة للهيمنة على العقول والقلوب.
وكانت كل الحصص في تلك المحطة الوحيدة الفريدة، تتلون بلون السيد العقيد بما في ذلك حصص الاطفال التي يستمتع فيها اطفال العالم باصوات العصافير او مواء القطط او ركض الارانب او مسابقات توم وجيري، الا في ليبيا فلا شيء غير اناشيد الولاء للعقيد quot;بابا معمر ياغاليquot; او ترديد مقاطع من خطاباته مثل خطاب ادمنت حصص الاطفال على تعليمه لهم يبدا بكلمة يقول فيها العقيد quot; نموت في نيكاراجواquot; دليلا على ان القائد الاممي يقود النضال في ابعد اركان العالم، بل وصل الامر في احدى مراحل الاشتعال ان خصصت المحطة الليبية حصة ربما تزيد مدتها عن نصف ساعة لا يذاع خلالها الا صيحات الجمهورالثوري وهتافاته التي تبدا بالروح والدم نفديك يا ثورتنا، وبالروح والدم نفديك يا قائدنا، الى، علم يا قائد علمنا، وكانت اكثر تلك الهتافات اجراما ورعبا هتافات يتم فيها التحريض على قتل المعارضين مثل quot;صفيهم بالدم، سير ولا تهتمquot; وquot;صفيهم بالنار، يا زعيم الثوار ويا زعيم الاحرارquot; وطبعا هؤلاء الناس المقصودين بالتصفية الدموية، ليسوا اعداء الوطن، او جنود الاستعمار كما يعرف العالم الهتافات، وانما مواطنون ليبيون امتنعوا عن المشاركة في مهرجانات الولاء القسري. ولم تكن حصص الغناء في التلفاز ايضا تحتوي على اي شيء من الاغاني الجميلة التي كان يتغنى بها الليبيون قبل الاطلالة العظيمة للاخ العقيد وضباطه الوحدويين الاحرار ليلة الفاتح الاغبر، مثل اغنية وعيوني سهارى، او منديلها الوردي، او على قد موج البحر بالوقوية، او يا غالية يا حب قلبي كله يا شمس طلعت والسحاب اتجلي، او ذوقي الشوق واحتاري شوية، او يدق القلب وامجور عليا، او عيونك سود وجذابه وفيها السحر الرباني، وغيرها من اغنيات تغذي الاحساس الجميل بالحب وتربي الوجدان العامر بالبهاء والعطف الانساني وانما سيل من اغاني العنف والاجرام فيما يسمى بالانجليزية Brutalization لانها تعبر عن الحالة خير تعبير ولها تاصيل وتاسيس في اللغة الانجليزية يدل على نوع من الصيرورة التي يعيشها بشر وتعيشها شعوب علي ايدي مثل هذه الانظمة، واقرب ترجمة لهذا المعنى، هو تفعيل ممنهج للتوحش والقسوة في قلوب الناس واجثثات النبل والرقة والبهاء وقيم الخير والمحبة واحلال القبح والدمامة وعوامل الشر والحقد والكراهية مكانها، واشهر هذه الاغنيات انشودة كانت تذاع عشرات المرات في اليوم الواحد يقول مطلعها
quot; دوس على الرجعي والخاين quot;
ولا حاجة للقول ان الرجعي والخاين في قاموس العهد الانقلابي هو كل انسان يابي الانخراط في المسار الاجرامي او بالاحري يبدي اي نوع من الاعتراض عليه، وساضرب مثلا باثنين من الليبين احدهما من شرق البلاد وثانيهما من غرب البلاد، لهما صيت وشهرة، ويعتبرهما الناس من انبل وارقى واجمل انواع البشر، واتحدى ان اجد انسانا واحدا في ليبيا يملك ادنى درجة من التحفظ والنقد لهما، ولم اعرف الرجل الذي كان يعيش في غرب البلاد الا من خلال ما اسمعه عنه من اصدقائنا المشتركين، اما الرجل الذين يعيش في غرب البلاد فاعرفه وتربطني به صداقة عميقة امتدت على مدى سنوات كثيرة ولا اعرفه الا مثالا للنبل والشهامة والرقي في السلوك والعمل والولاء للوطن واعرف ايضا انه لم يرتكب ادنى مخالفة في حق النظام سوى انه نأى عنه ولم يكن يريد ادنى علاقة به واعرف ان النظام بادر بعرض مناصب عليه ولكنه بشرف وكبرياء واباء رفض قبول اي منصب كما رفض ان يقوم بينه وبين النظام الانقلابي اي تعاون فهو رجل يعمل محرر عقود ويملك مكتبا يجلب له رزقا واعرف على وجه اليقين ان هذه حدود العلاقة مع النظام فلم يدخل في اية حلقات معادية او يتصل باي احد يريد ان يتامر على النظام، نبذ السياسة وتفرغ لعمله المهني لا يريد من النظام خيرا ولا شرا ومع ذلك لم يسلم للاسف من شر النظام وهو الاستاذ المثقف الوطني الشريف عامر الدغيس وكانت تربطه صلة صداقة وزمالة ورفقة نضالية قديمة في حزب سياسي قبل مجيء الانقلاب بسنوات لان الحزب تم حله وتفرغ كل منهما لعمله الحقوقي وهو الاستاذ محمد حمي، وقد قام النظام بقتلهما وتسليم جثمان كل منهما لاهله، وحدث هذا دون محاكمة ودون تحقيق ودون ادنى سبب يقتضى هذا الاجرام، لمجرد ان الاثنين من شرفاء القوم ولهما سمعة نضالية في المجتمع ولم يكن اي منهما يمثل تهديدا للنظام ولكنه جنون الاجرام واجرام الجنون الذي لا تحكمه اسس ولا قواعد ولا قيم. سقت هذين المثلين لمجرد ان ابرهن ان هذا النوع من الغناء الاجرامي لم يكن يعني الا امثال هؤلاء الرجال من شرفاء المواطنين.
وطبعا هناك سيل من اغاني التمجيد والمديح للاخ العقيد التي وصل الحد باحداها الى ان اسمته يا عظيم الشان من تلحين وغناء فنان الثورة محمد حسن، صاحب الرصيد الاكبر من مثل هذه الاغاني والاناشيد.
اما الكم الاكبر من اكداس المديح والتمجيد فقد احتوته حصص الشعر الشعبي، التي كانت تملا ساعات الارسال بمعدلات يومية ووصل الامر الى اقامة مهرجانات في كل قرية ومدينة اذ لا يكاد يمضى يوم دون مهرجان من هذه المهرجانات كما تم انشاء اندية لهؤلاء الشعراء المداحين حتى ليكاد يصبح اعداد هؤلاء الشعراء الشعبيين اكثر من اعداد الطبقة العاملة، ويتنافسون ويتبارون فيمن يصل الى مستويات اعلى من النفاق والمديح وقصائد الهجاء المقذع في خصوم الاخ العقيد في الداخل والخارج، وشهدت قناة القنفوذ كما يسميها الليبيون تغليبا للثقافة الدارجة على الثقافة الفصيحة وتغليبا لهؤلاء الاميين والجهلة من كتاب هذه المدائح على مثقفي البلاد ومفكريها، وحيث تتبارى الاذاعات الاخرى في جلب اهل التخصص لشرح الاحداث مثل اساتذة العلوم السياسية فان ليبيا لم يحدث في اية حصة من الحصص ان استدعت استاذا من هؤلاء الاساتذة وهم كثر للاستنارة برايهم في مثل هذه القضايا السياسية، ولا يرى المواطنون من اساتذة الجامعة الا اعضاء هيئة تدريس المدرج الاخضر الذين يتفننون في الحديث عن الكتاب الاخضر والنظرية الخضراء والفكر الجماهيري امثال رجب ابودبوس ومحمد لطفي فرحات ومهدي امبيرش وعبدالسلام المزوغي ومحمد بيت المال وغيرهم كثر.
ولابد ان تحتوي حصص الاذاعة المرئية الليبية كما يسمونها، نقلا مباشرا لاحد الملتقيات الجماهيرية او الشعبية او الثورية، وبصورة خاصة لقاءات السيد العقيد او بعض اعوانه ممن هم اكثر منه جهلا ولغتهم اكثر عنفا ومستواهم الفكري اكثر انحطاطا ومستواهم الاخلاقي اكثر سقوطا، ويكفي ان ينظر الانسان الى ما يعاد تكراره فيما يسمى مؤتمرات وملتقيات اللجان الثورية وينظرالى ما يقرأونه من اوراق وما يسطرونه في بطاقات العضوية نفسها من مهام والتزامات ليصاب جسمه بقشعريرة الرعب من هول ما تتضمنه من لغة الاجرام والقتل، واسوق هنا مثلا لما تعودنا على قراءاته وسماعه من هذه المهام ويمكن للانسان ان يعود ليرى كميات مهولة من هذه العينات في موقع مكتب الاتصال باللجان الثورية وصحافته واعلامه:

1ـ إن التصفية الجسدية لن تتوقف أبدا حتى يرجع أعداء الثورة, أعداء الحرية...أذلاء صاغرين يقبلون أيادي وأرجل الشعب العربي الليبي, إن تصفية الأعداء جسديا كمرحلة أولى ستلحقها عمليات تدمير للمواقع التي يختبئ فيها الأعداء.
2ـ إن مقابر العرب الليبيين ترفض أن تستقبل جثثا نتنة تزكم رائحتها الأنوف, جثث أولئك الذين باعوا وطنهم, وباعوا دينهم وباعوا قيمهم.
3ـ إن اللجان الثورية صممت تصميما لا عودة فيه على التنكيل بإعداء الثورة أينما وجدوا لأنهم أعداء حقيقيون لسلطة الشعب, أعداء حقيقيون للاشتراكية, أعداء حقيقون للحرية.

وهو مقطع اخذته حرفيا من احدى هذه المواقع، وطبعا قاوم النظام الليبي زحف المحطات الفضائية القادمة من الخارج في بدء انتشارها، والتي جاءت لكسر احتكار محطة القنفوذ لعقول وابصار المشاهدين الليبيين، واحتال،بعد سنوات من الحظر والممانعة، على الامر، بانشاء شركة تختار عددا من المحطات المعروفة بولائها للنظام ليعاد بثها ويبلغ عددها على ما اذكر 20 محطة هي التي يمكن للمشاهد الاشتراك فيها وشراء بثها من الحكومة، وطبعا هذا الشراء يعني ان قلة هي التي ستقوم بدفع المبلغ بينما اكثرية الموطنين ظلت محرومة من السماوات المفتوحة مرتهنة لمحطة القنفوذ لا ترى سواها، ولا تسمع غير السيالات الذهنية لرئيس النظام وما يذاع من مديح له واغنيات تتغني بامجاده وامجاد ثورته، لكن الامر صار فيما بعد عصيا على السيطرة، فقد تطورت تقنية الارسال الى الحد الذي لم يعد ممكنا منع المواطنين من استقبال هذه الفضائيات فتم الغاء شركة اعادة البث، وعمد النظام الى محاولة شراء ورشوة عناصر فاسدة في هذه المحطات لكي تهتم باعادة خطاباته وشراء حصص اعلانية فيها لنشر برامج عنه كما لم يتوان في عقد صداقات ورفع درجة التعاون السياسي والاقتصادي مع بلدان تملك فضائيات مشهورة او اعلاما قويا بما في ذلك نظام مبارك ووزير اعلامه صفوت الشريف الذي كان يملك حظوة خاصة لدى النظام الليبي، لكي تهتم فضائيات هذه الدولة واعلامها باخبار السيد العقيد، وطبعا فقد كانت الجماهيرية العظمى كما يسمي العقيد دولته، تملك من الامكانيات والموارد والاموال التي تتيحها موارد النفط ما يجعله يحظى بمعاملة اعلامية خاصة في اغلب الفضائيات العربية، وظل يقاوم انشاء محطات ليبية جديدة غير المحطة القنفوذية العتيقة، لكي لا يتشتت انتباه المتفرج الليبي، الذي يجب ان ينام ويستيقظ على صورة وصوت السيد العقيد، في تلك المحطة، ومرغما اضطر النظام الى انشاء محطات اخرى متخصصة مسايرة لما يحدث في العالم حتى وصل عددها الان الى 16 محطة، الا انها، ورغم التخصص المزعوم، في الرياضة او الدين او التسلية او غيرها، ظل تخصصها الوحيد هو السيد العقيد واخباره وبرامج المديح له والدعاية لثورته المزعومه ونظام الجهل والحماقة الذي اقامه ويغطيه بالمساحيق والاصباغ كما يفعل مع صورته دون فائدة ولا جدوى.
هكذا كان اعلام النظام الانقلابي على مدى العقود الاربعة الماضية، ويشهد الله اننا حاولنا اشفاقا على هذا المواطن الذي يعيش جلسات التعذيب مع هذا الاعلام، ان نكتب مقترحين شيئا يخفف البلاء، ونطالب ببعض التعديلات التي تتيح شيئا من الانفراج في المشهد القاتم لهذا الاعلام المرئي والمسموع، ولكن لا احد كان يريد ان يسمع او يفهم لان الامر كان اشبه بقطار يسير فوق قضبان تحدد طريقه ومحطات وصوله ولا سبيل الى تعديل المسار مهما تمزقت حناجرنا بالصراخ. بل وحدث ذات مرة وبسبب هذا الالحاح على تعديل المسار ان حصلت استجابة لما كنت اقوله ويقوله الزملاء الكتاب، وتم تكليف لجنة كنت من بين اعضائها كما كان من بينهم الراحل الكبير صادق النيهوم الذي كان اكثرنا حماسا واجتهادا في وضع خريطة للتلفاز الليبي تقترب من مستوى ما كان يعرفه في بلدان الشمال الاوروبي بل واحضر لنا نماذج للاهتداء بها عن تقسيم الخريطة بين شرائح المجتمع من نساء واطفال وشيوخ لارضاء مختلف الاهتمامات والاحتياجات، ولكن على من تتلو مزاميرك يا داوود؟ فقد كان الامر مجرد ذر للرماد في العيون، وواصل الاعلام المجنون دوره في خلق حالة العصاب الجماعي وتصنيع التوتر وزرعه في قلوب المواطنين وصيرورة تفعيل الشر والقسوة والعنف والتوحش الذي ظل هو ديدن الاعلام الجماهيري مرئيا ومسموعا الى حد لا نستغرب اليوم عندما نرى ما تركه من ندوب ودمامل في نفوس عناصر النظام وجنود كتائبه الامنية ممن يرتكبون افعالا غير مسبوقة في تاريخ الشر والجريمة وهم ينتهوك اعراض اهلهم ويقتلون مواطني بلادهم دون تمييز بين رجل وامراة وصغير وكبير.
وهل نلوم بعد ذلك شاعرا شفافا جميلا رقيقا مثل الراحل الكريم الاستاذ حسن صالح، عندما تحامل على نفسه ذات مساء في بنغازي، وجر جهاز التفاز الى الشرفة ورمى به على الرصيف؟.