يقول الدكتور علي الوردي إن العراق كان مركزا ً للنفوذ والإستقطاب بين الدولتين الصفوية والعثمانية لمدة ثلاثة قرون, حتى أن المثل العراقي كان يقول (بين العجم والروم بلوة ابتلينا), أي أبتلينا بالفرس والأتراك الذين كانوا يسمون بالروم من قبل العرب لأنهم جاءوا من جهة الروم. لقد عبر هذا الصراع السياسي عن نفسه من خلال النزاع الطائفي بين السنة والشيعة, فقد كان الشيعة يعتبرون ايران حامية المسلمين الشيعة والسنة يعتبرون تركيا حامية السنة في العراق, فلا وجود لأفكار كالأمة والوطن والإستقلال وماشاكل ذلك. فالصراع في جوهره سياسي للسيطرة على منطقة مهمة ضمن سياقات التحالافات الدولية آن ذاك.
حتى بعد ظهور العراق كدولة لها كيان في بدايات القرن العشرين لم يخفت النفس الطائفي الا قليلا ً بعد أن بنيت الدولة على أكتاف من درسوا مختلف العلوم في اسطنبول مقابل عزوف الطرف الآخر من الدخول في بناء الدولة, ومنها عدم الدخول في المدارس أو في الحكومة إلا بمشاركة وزير واحد فقط. ولكن, لابد من التذكير بأن النفس الطائفي خفت كثيرا ً بعد ظهور الحركات القومية في الشرق الأوسط فتحول الصراع إلى صراع بين الفرس والعرب وفيما بين العرب أنفسهم. فقد كان نظام الشاه يسمى شرطي الخليج بمباركة أمريكا, فما كان من العراق إلا أن أخذ دور حامي الأمة العربية الحلم. وليكون كذلك لابد للعراق أن يكون قويا ً بما يكفي ليكون حامي تلك الأمة, بالخصوص بعد إنسحاب مصر من دور الريادة بعد إتفاقية كامب ديفد مع الإسرائليين. وعلى هذا الأساس بدأ العراق يبني جيشا ً ويسلحه تسليحا ً حديثا ً مستعينا ً باموال النفط الذي أممه من سيطرة الشريكات الأجنبية. لقد كانت القوة العسكرية هي الركيزة التي اعتمد عليها العراق ليبقى قويا ً. وكحال جميع الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية يؤدي فشل العقل السياسي وترهله وفساده وغياب الإستراتيجية الواضحة البعيدة النظرضمن السياقات الإقليمية والدولية إلى توجيه تلك القوة العسكرية لحماية الحزب والفرد الواحد ليتخذ من الشعب عدوا ً وندا.
لقد وجهت ماكنة القوة العسكرية في العراق بإتجاه الشعب العراقي لتقتل وتهجر مئات الآلاف من كرد وعرب وسنة وشيعة. ومن ثم وجهت لدول الجوار لتدخل في حربين طاحنتين ليعقبها حصار وحرب مرة أخرى. لقد أضاعت مغامرات النظام السابق تلك القوة العسكرية وصار العراق ضعيفا ً ومفككا ً بعد سلسلة من الحروب والأزمات. وما أن اصبح العراق ضعيفا ً حتى تكالبت عليه دول الجوار تنهش فيه كما تنهش الذئاب بشاة خائرة القوى. فبين قصف لقرى حدودية لقطع مياه وسد منافذ بحرية إلى إقتطاع أراض وحفر آبار بشكل مائل تبدو الدبلماسية العراقية عاجزة عن صياغة خطاب موحد يمثل وجهة نظر الحكومة العراقية تجاه السياسة الخارجية فيما يخص دول الجوار في ظل غياب إستراتيجية واضحة وتخبط غير مسبوق. بل إن الدبلماسية العراقية عاجزة حتى عن إتخاذ مواقف حازمة تجاه تلك الإنتهاكات الغير مببرة. لقد عاد العراق الضعيف وتحول لمنطقة نفوذ بين تركيا وايران مرة أخرى واللتان تريدان من العراق أن يكون ضعيفا ً تبعا ً لمصالحهما, وسط إنقسام طائفي تكرس من خلال المحاصصة الطائفية.
لقد شهد العراق حركة دبلماسية وإقتصادية نشيطة في الآونة الأخيرة من قبل الترك والايرانيين. فما أن تهبط طائرة تركية تدشن خطا ً جويا ً جديدا ً في جنوب العراق حتى تفتح ايران قصنلية في شماله. لقد ازداد حجم التبادل التجاري العراقي مع كلا الدولتين بشكل كبير. فايران التي تبحث عن منفذ لعقوباتها الاقتصادية وجدت في العراق ضالتها, أما تركيا فهي تبحث عن دور سياسي من خلال الاقتصاد بعد أن أدار الإتحاد الأوربي ظهره إليها. إن تلك الدول تبحث عن مصالحها وهذا شيء لاعيب فيه في السياسة ولكن, إلى متى يبقى العراق ضعيفا ً ومعتمدا ً على جيرانه اقتصاديا ًّ.
لابد للعراق أن يكون قويا ً لينجو من خطر التقسيم ويكون فاعلا ً على المستويين الإقليمي والدولي, ولكن كيف! نعم, يمكن للعراق أن يكون قويا ً بإقتصاده وليس بالقوة العسكرية. فيمكن للعراق أن يتسلح فقط ليحمي أرضه وسمائه, ولكن وفي نفس الوقت, يمكن للعراق أن يكون دولة قوية في إقتصاده من خلال التركيز على الإستثمارات والإهتمام بالتنمية البشرية. ففي العراق مقومات لاتتوفر عند أغلب الدول العربية والدول المجاورة. ففي العراق ثروة نفطية يمكن أن تكون رأس مال للإستثمار والإنتقال بالعراق خطوة لإيجاد البديل عن المصدر النفطي الوحيد. في العراق يوجد أيضا ً ثرة من الغاز الغير مستثمر, فالعراق يمكن أن يزود أوربا بالغاز من خلال أنابيب تمتد من شمال وغرب العراق مرورا ً بتركيا. أما ثروة العراق البشرية فهي كبيرة ولدية قاعدة لابأس بها من أصحاب المهارات. أما جغرافيا ً فالعراق يقع على مفترق طرق يربط بها قارتين ويمكن من خلال العراق ربط أوربا بالمياه الدافئة عبر القناة الجافة.
لايوجد خيار للعراق سوى الحل الإقتصادي الذي يجعله بمأمن من التدخلات الخارجية من خلال شبكة من المصالح المشتركة. فهناك نماذج كثيرة خرجت من حروب ونجحت إقتصاديا ً ككوريا الجنوبية والمانيا واليابان. أن خيار الديمقراطية والسوق الحرة يحتم على العراق السير تجاه الظهور كقوة اقتصادية تحميه من المخاطر الخارجية. ولكن, على ساسة العراق وخبرائه إدراك هذا الأمر الذي سيغيب المشكلة الطائفية ربما إلى الأبد. أن غياب الإستراتيجية الاقتصادية وعدم توفر شروط النهوض الإقتصادي يعيق هذا التوجه ولابد للسياسيين إدراك ذلك. لابد من خطوات جادة وحاسمة من خلال مكافحة الفساد والارهاب لجلب الاستثمارات الاجنبية والتي يصاحبها اصلاح للنظام القانوني والمصرفي وتقليل قيود البيروقراطية. لابد أيضا ً من بناء البنية التحتية والتركيز على التنمية البشرية من خلال بناء الكفاءات في خارج البلد ومساعدة القطاع الخاص بعيدا ً عن المركزية. على العراق أن يبني من جديد الطبقة الوسطى التي حطمتها الحروب والحصار الاقتصادي والسياسات الغير مسؤولة من قبل الحكومات المتعاقبة منذ ثلاثين عاما.
- آخر تحديث :
التعليقات