Epilepsy

ذاكرة الطفولة لا تمحى بل تشتد مع تقدم الزمن، وأتذكر من طفولتي منظرا لا يفارقني. وكنت يوما في مدينة القامشلي يحلو لنا اللعب في الزقاق!
كان الجو مغيما وبجنب فرن سليم سقط رجل مار فجأة بدون حادث وسابق إنذار؟
تجمعنا نحن الأطفال حوله متعجبين مستغربين؟
كان الرجل غائبا عن الوعي تماما، متشنج ترتجف أطرافه بشدة، يعلو الزبد شدقيه؟ وهو ينتفض كمن يضربه تيار من الكهرباء؟
وهو حق، لأن الصرع مرض تنفرغ فيه الكهرباء في الدماغ في إعصار مدمر.
وبينما نحن متحلقون مندهشين من صاحبنا في كومة من الصبية علاها روح الاستغراب والاكتشاف، دفعنا رجل بيده جانبا ثم اقترب من رأس الرجل وأماله إلى جنب، ووضع تحت رأسه سكينة؟؟
نحن نظرنا ولم نعرف الرابط بين السكينة بنصلها الحديدي الحاد، ومرض الرجل؟
وإذ لاحظ الرجل دهشتنا ورغبتنا في المعرفة التفت إلينا وقال هذه السكينة ستهدئ النوبة..
وفعلا لم تطول النوبة فاستيقظ الرجل بعد كبوة، ونظر في وجوهنا نحن الأطفال المحملقين، ثم نهض من سبات وقام يسعى..
هذه الحادثة أتذكرها جيدا وهي أفضل من كل دروس الطب عن الصرع، فهي مشاهدة ميدانية لطفل استغرقه روح الاكتشاف والمعرفة..
وحين دخلنا كلية الطب كان فيصل الصباغ أستاذ الأمراض العصبية قد حول درسه إلى كوميديا عجيبة، يدخل فيه المعلومة العصبية الصعبة بين نكتة وقصة وتعليق.. ولأن الصرع قصته عجيبة فقد شرح لنا المرض بطريقته الخاصة..
ولم تكن قصة الرجل الوحيدة في حياتي، فقد رأيت اثنين ممن حولي من الدوائر العائلية القريبة يصابون بالمرض على اختلاف في الدرجة..
واليوم قد أفسر عمل الرجل، بوضع السكينة بجنب رأس المصروع، أنه كان نوعا من انفراغ واستقطاب وجر الدارات الكهربية العاصفة في رأس الرجل، بفعل مغناطيس قطعة الحديد من السكين، وقد تكون مجرد خرافة؟
وقصة مرض الصرع قديمة قدم التاريخ، واتهم الأنبياء فيها، إلى درجة أن مالك بن نبي أشار إلى هذا، في كتابه الظاهرة القرآنية، بأن الصرع في ضربته الكبرى، يترك صاحبه غائبا عن الوعي لا يتذكر ما حصل، أما في الوحي النبوي فإنه يرجع بالرسالة والهدي وسبعا من المثاني والقرآن العظيم..
وقصة الجدل مع المنكرين اختصرها القرآن في نصف آية فقال؛ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون..
والجدل كما يقول الوردي عقيم، والعقل لم يبن قط على المنطق والرياضيات بل على الأهواء:
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون..
ومازلت أتذكر أيام عملي في الجراحة العصبية مع الدكتور الفاضل هشام بكداش فتعلمنا منه، أن الصرع له علاقة بالحوادث ورضوض الرأس، بحيث أن 25% من الناس الذين تعرضوا لرضوض على الجمجمة بدون فتح يتعرضون للصرع، وأن خمسين بالمائة ممن تفتح جماجمهم بالحوادث يصابون بنوبات الصرع لاحقاً..
ومما أتذكر من حفلات التعذيب في سجن القلعة، أن الجلاد يوسف طحطوح ضرب أحد المعتقلين بالعصي على رأسه فانبجس الدم فوارا، ووقع المعتقل على الأرض في حالة نوبة صرعية، والمجرم طحطوح يشبه الجلاد المصري البسيوني فهما من كلاب جهنم.. فأما الأول فقد قطع جسده أشلاء في حادث سيارة فلم يعثر له على قبر، وأما الثاني فأصبح تاجر عقارات في الزبداني وداريا..
وأذكر أحد أقربائي أنه كان يشتد في الزعل فيضرب رأسه في الحائط؛ فأصيب لاحقا بالصرع، فهو يعيش على دواء الايبانوتين..
كذلك أذكر ممن حولي فتى أصيب بالصرع بدون سابق إنذار وفجأة فلم يصدق الأهل، ولم يظهر تصوير الدماغ بالطنين المغناطيسي والتصوير الطبقي المحوري أية آفة..
لذا كان الصرع مرضا خطيرا عجيبا مجهولا..
وحين يحدد المرض ويشخص، وجب الاحتياط للمريض، أن لا يقرب نارا ولا نهرا ولا يسوق سيارة، فإما احترق أو غرق أو هوى إلى شفا جرف هار فانهار به..
ومن قاد إلى تشخيصه هو تسجيل تخطيط الدماغ الكهربي، فقد عرف أن نشاط الدماغ هو كهرباء وكيمياء وبموجات محددة، فإذا اختلت وعلى نحو ثابت وخارج وقت النوبة قيل أن صاحبها مصاب بالمرض..
ويعرف الأطباء نوعين من الصرع؛ الأول الكبير بفقد الوعي كاملاً، قد يصل فيه الأمر إلى الضزز وعض اللسان وانفتاح المصرات فيبول المرض على نفسه وهو لا يعلم, أو الصغير ولا يحصل فيه فقد الوعي ولكن تغيمه..
وحاليا فإن السيطرة على النوبات وتفاديها ممكن، ويحلم الأطباء بدواء يزيل العلة نهائيا.. والبحث العلمي لا يعرف التعب والاستقالة..
وجدير بالذكر أن تخطيط الدماغ الكهربي فتح جليل في مجال العلم اكتشفه شاب صغير نال من السخرية الكثير قبل التسليم له والاعتراف به فهو يوجد في كل مشفى وجناح للأمراض العصبية..

فكرة عن مخطط الدماغ الكهربي (EEG):
كان أول من فكر بموضوع تخطيط الدماغ الكهربائي طبيب ألماني اسمه(هانز بيرجر) حيث لاحظ هذا الرجل أن خلايا الدماغ ترسل إشارات كهربائية، كما تُرسل الإشارات من الموانئ إلى السفن التي تبعد عن الساحل أو كإشارات اللاسلكي، وهذه الإشارات إذا أمكن التقاطها وتكبيرها إلى مليون مرة، فإنه يمكن فهمها بل ونقلها إلى آلة ترسم هذه الإشارات بشكل خطوط وموجات، وقد نجح في هذا.
ولكن مدرسة التحليل النفسي التي نادى بها (سيجموند فرويد) في أوربا في تلك الأيام كانت قد نالت إعجاب الأطباء والجمهور، فلم يلاقِ إلا السخرية والضحك عليه، حتى لقّب باسم حصان كان يلعب في السيرك أطلق عليه لقب (هانز)، وكان هو بالمقابل غير حريص على كسب الناس والتودد إليهم.
(والحق يقال إن قيمة الباحث لا تأتي من مقدرة الباحث في كسب الناس والتأثير عليهم، بل إلى صحة المعلومات التي أدلى بها، وهذا المصير كان لكثير من العلماء..).
والقرآن يشير جدا إلى أن أكثر الناس لا يعقلون ولا يشكرون ولا يعلمون، وأن الإنسان خلق هلوعا منوعا جزوعا وظلوما وكفّار..
ولمسك هذه الموجات فقد تم الوصول إلى وضع منافذ ومستقبلات للإشارات الكهربية على الجمجمة من الخارج، وتتصل هذه المستقبلات بأسلاك تنقل التيارات الكهربية الضعيفة إلى جهاز يضخم هذه التيارات مليون مرة، ويسجلها على قطعة من الورق بشكل خطوط أشبه ما تكون بإمضاءات بيد مرتعشة غير واضحة.
ولقد لاحظ الأطباء إن هذه المنافذ لا تؤدي المطلوب، وهي أشبه ما تكون بأخذ رأي أمة من 16 شخص؟ أو معرفة تيارات المحيط الهادي بوضع 16 دليل عائم على سطحه، لأن كل منفذ يأخذ التيارات من ملايين الخلايا العصبية، ولذا فإن التقاط الإشارات الكهربية ومعرفة وضع الخلايا العصبية بشكل جيد يحتاج إلى أكثر من مليون منفذ أو مستقبل للكهرباء، وبالطبع فإن هذا الشيء غير ممكن من الناحية الواقعية.
ولقد ابتكر الدكتور (جون ليلي) من جامعة بنسلفانيا جهازا فيه 400 مستقبل كهربائي. كما أن الدكتور (انتونين ريموند) من المركز الأهلي للبحث العلمي في باريس صمم جهازاً فيه 20 مستقبل لقشرة المخ بأكملها، ويستقبل الإشارات بثانية واحدة، وعلى العموم فإن الأجهزة الموجودة بين أيدي الأطباء اليوم ما زالت متواضعة، ولكن يعرف منها الكثير، وفي المستقبل قد يمكن اكتشاف أشياء مثيرة وهامة من هذه الأجهزة أو بتطويرها.
وكل يوم هو في شان.. فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.
لقد وجد أن الخلايا العصبية في الدماغ حينما تكون بحالة استراحة وشرود ترسل 10 نبضات في الثانية الواحدة، وهي المعروفة بنظم (ألفا) ونفس هذا النوع له أقسام، مثل موجات ألفا M م وألفا P.
ويزعم (جون فايفر) في كتابه عن (الدماغ البشري)، إن الشخصين اللذين يحملان هذين الطرازين من موجات الدماغ إذا اجتمعا فلا ننتظر منهما إلا عدم التوافق، ويدخلان في مناقشات حادة مريرة، ومن النظرة الأولى لا يحدث ارتياح أو انسجام بينهما!! على قاعدة تنافر المتشابه وانسجام المختلف؟
وليس نظم ألفا الوحيد في الدماغ بل هناك أربعة أنواع على الأقل مثل بيتا وتيتا وسواها..
إلا أن هذه الموجات التي ترسم على الورق تتسطح فجأة إذا ركّز الإنسان تفكيره، أو أثير بانفعال، أو سمع ضجة كبيرة، أو قام بحساب معقد، وإذا بقي النظم هو كما هو دل غالباً على حالة مرضية.
وإذا قمنا بدراسة للمخطط الدماغي فإننا سوف نعثر في الحالة الطبيعية على النظم السوي من نموذج ألفا الذي مر، وقد تكون الإشارات أقل من 10 في الثانية أو أكثر وكلها تدل على مزاج سوي.
ولقد وجد أن هذا النموذج يكون مضطرباً عند الأطفال ويكون في حدود 4-7 نبضات في الثانية ومضطرب، وهي في الحقيقة تعبير جيد عن وضع الأطفال الفكري ولغة الأطفال، وإذا تقدم في العمر يبدأ نظم الدماغ يتدرج إلى الحالة السوية حتى يصل إلى سن 40 سنة أو أكثر حيث يصبح نظم ألفا هو المسيطر على فعالية الخلايا العصبية الكهربي.
والمهم في مخطط الدماغ الكهربي أنه استطاع أن يحدد بعض الأمراض المخيفة كما في الصرع، حيث يمكن تحديد المرض بالضبط ولو لم يكن المريض في حالة نوبة، حيث يظهر على المخطط اضطراب في فعالية الخلايا يتظاهر بارتفاع موجات التخطيط وهو ما يعرف بنموذج الذروة، كما يمكن بواسطة التخطيط الكشف عن بعض الأورام المدفونة بدقة في تلافيف الدماغ وهذه تحتاج إلى دراسة خاصة.
وأخيراً أمكن التعرف إلى نقطة هامة في هذا البحث وهو الكشف عن شخصية الإنسان من خلال تخطيط الدماغ، وظهور مخططات شاذة عند القتلة والمجرمين والأطفال المعتوهين، وهنا نقف على عتبة عالم جديد حيث نرى البحار النفسية المتلاطمة والأفكار الذهنية التي تمر كالريح، فهل يا ترى بالإمكان قراءة الأفكار ومعرفة التداخلات النفسية العجيبة المعقدة من خلال هذه الآلات التي تلتقط لنا هذه الإشارات العائمة من بحار تلافيف الدماغ؟
وهل بالإمكان معرفة تكوين الشخصية من خلال هذه الرسوم الواضحة؟
والحق يقال إن هذه المعلومات قربت لنا الإيمان وجعلته قاب قوسين أو أدنى حيث يقول القرآن:
(اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).سورة يس.
(ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون. وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) سورة فصلت.