الثورة هي إعلان لولادة الروح وانعتاق من أسار القوة.
كل ثورة تتمرد على القيود تولد فيها روح جديدة وعلاقات إنسانية جديدة. كل انزلاق للقوة معناه تعطل ولادة الروح.
بلال كان يكرر أحد ... أحد في إشارة واضحة لولادة الروح الجديدة.
كل ميل للقوة معناه الوقوع في عبادة صنم القوة من جديد، وأن الثورة تحولت من الروح إلى المادة؛ فلا تبق ثورة بل صراع بين قوى طاغوتية يهمها السلطة أكثر من ولادة الروح.
أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون.
أرسل لي الشاب (بشر سعيد) هذه العبارة عن الحراك السلمي في سوريا في الوقت الذي يتصاعد فيه العنف ويبدأ الشباب في التسلح للدفاع عن أنفسهم، ولكن أين الدفاع أين الهجوم؟
إن إسرائيل تسمى وزارتها الحربية وزارة الدفاع الإسرائيلية وهي التي تشن الحروب دوما.
يقول هتلر في كتابه كفاحي أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم!
في الحديث أنه إذا التقى اثنان بالسيف يتقاتلان فالقاتل والمقتول في النار وحين يتعجب الصحابة هذا القاتل فما بال المقتول يشرح له نبي الرحمة أن القاعدة النفسية عند الاثنين واحدة. كان حريصا على قتل صاحبه. المسألة هي من سبق. من سبق كان القاتل ومن تأخر عن القتل كان المقتول ولو استطاع السبق لتحول القاتل مقتولا والمقتول قاتلا.
قصة ولدي آدم في القرآن لم تأت من فراغ فهي تقول بمبدأ عدم الدفاع عن النفس لأن من يقتل هو الخاسر وهو النادم الذي يتوب في النهاية ويعترف للمقتول أنه كان على صواب وبذا يتحول المقتول الشهيد إلى بذرة تدفن في الأرض وتنبت شجرة الحق والحرية والعدالة. ولكن بيننا وبين هذا الفهم مسافة سنة ضوئية.
يجب أن نكف عن القتل. وإذا كان ولا بد في ظروف الاقتتال أن لا نبدأ بالقتل بل نتقبل أن نكون في صف المقتولين.
القرآن يقول ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا.
هل ندرك لماذا يقدس الشيعة الحسن حتى هذا اليوم ويحتفلون بكربلاء ؟ بسبب المظلوم.
هل نعلم لماذا يحمل المسيحيون الصليب إلى جبل الجلجثة كل عام في حفل بالكي؟ إنه احتفال بالمظلوم.
هكذا يصبغ التاريخ وريقاته أن المظلوم ينتصر له التاريخ فيخلد. وهو المعنى الذي ذهبت له الآية أن الشهيد المقتول حي لا يموت..
هل يمكن للثورة السورية أن تحافظ على الزخم السلمي فلاتنزلق للاقتتال الأهلي الطائفي فتحافظ على روح الثورة من شوائب الحقد وغريزة الدم البدائي. هذا هو المغزى الأخلاقي العميق في الثورات وإلا فلا تبق ثورة. لأن الثورة إعلان ولادة الروح وقد تحررت الروح السورية اليوم من الخوف والاستبداد ولكن عليها أن تتابع طريقها بنفس الروح السلمية حتى النهاية. إنها في الحقيقة تقترب ولكن مخاطر كثيرة تلوح في الأفق فهل تضيع الثمرة التي باتت قريبة في الأفق؟
جاء في كلمة بشر سعيد التالي:
(الأسوأ قد يقع، فكما نسينا أن ثورتنا هي ثورة حرية، ها اليوم تكاد تتحول إلى ثورة انتقام وتخوين، هكذا هي الآن على الأقل في نظر البعض، وغداً قد تصبح حرباً أهلية، في واقع يفرض نفسه، وربما طائفية، ولا شيء مستبعد لأننا مستعدون، كما هو واضح، للسير مع النظام عبر كل الأبواب التي يفتحها، بذريعة بسيطة، النظام هو السبب... ونحن مجبرون . أخيراً نصل إلى مرحلة سيضطر فيها من بقي على قيد الحياة أن ينسى الدماء بعد أن ينسى الحرية والدولة المدنية والمعتقلين والمختفين، وسنسمعهم من قبورنا يقولون الكلمة التي طالما انتظرناها: quot;فقط أوقفوا القتلquot;، التلفظ بتلك الكلمات سيكون أصعب من شرب السم. ولكنها الضريبة التي يجب على الجاهل أن يدفعها. أريد السلمية لأنني أريد انتصار الثورة(
ما حدث في سوريا من انفجار الثورة الشعبية بالكفاح السلمي يعتبر أشبه بالمعجزة، ولو أميط اللثام عن الغيب وقيل للناس انظروا للدماء هل أنتم ثائرون؟ لترددوا ونكصوا على أقدامهم وهم يرون الدم والبارود.
وفي قناعتي لولا الجو العربي العام من الاختلاج والحراك لما أصابت الحمى الجماهير في سوريا فيجربوا حظهم في الانتفاضة على نظام مسلح حتى الأظافر والأسنان أشبه بديناصور لاحم.
أعترف للقارئ أن تصوري للثورة السورية أن أمامها عشرة عوائق كل واحد كاف لفرملة أي حراك شعبي! مع ذلك تحركت الجماهير وهي تستتقبل الرصاص الحي.
وحين اندلعت الأحداث في تونس كان النظام البعثي السوري يراقب المشهد بتمعن وحذر واستخلاص الدروس.
كان الدرس الأهم بدء قمع الاحتجاجات من نقطة النهاية وليس البداية قتل الناس بالجملة واستخدام الرصاص الحي.
الأمر الثاني: حين رأى المصريين في ساحة التحرير يجتمعون سلميا أنه يجب سحق أي تجمع في أي ميدان واسع مهما تكن الكلفة البشرية.
ثالثا المراهنة على الوقت في سحق الثورة، ولن يطول الأمر ـ كما يفكر كل الطغاة إلا قليلا ـ وذاكرة الشعوب قصيرة، وكثير من الاحتجاجات في الأرض تم تطويقها وخنقها وما من معقب. وساحة تنامنين في بكين درس كبير، وسحق جورجيا بأقدام الدب الروسي ومعها جروزني والشيشان نقلها سيرجي لافروف للأسد الصغير من فصيلة السنوريات.
يبدو أن الثورة تابعت طريقها بكل زخم ودون تردد وهي تقدم عشرات القتلى يوميا.
والآن يتبين أن حجم الجبهة في وجه الثورة السورية أكبر من كل ثورات الربيع العربي؛ هنا نظام شرس دموي مقابل جماهير عزل. سلاح روسي بترسانة الحرب الكونية. دعم لوجستي من إيران والعراق، وخطط مشتركة مع حزب الله اللبناني بلحية وعمة وقفطان من أصفهان. مضافا له فيتو مزدوج من روسيا والصين.
الأخطر هو وصول رجال الثورة في سوريا إلى القناعة التي تقول أنه ليس من ثمة أي مفاوضات سوى السلاح لنظام لايفهم إلا لغة واحدة هي لغة القوة.
مشكلة السلاح والتسلح أنه ورطة متعددة الجوانب لكن الأهم هو إجهاض الثورة الروحي.
الموضوع هنا بالسلاح يدور حول الانتقام الغريزي الوحشي بحجة الدفاع عن النفس. والثورة هي إعلان تمرد الروح من ارتباطات القوة.
الثورة السورية فاجأت العالم بهذه الروح الاستشهادية. ولعل الفيتو الروسي هو ذلك التعبير العميق عن الخوف من انتشار مثل هذه الروح عبر شبكة الفيسبوك وعالم الديجتال إلى قباب الكرملين الذي يمثل نقل المعلومة وتبادلها في غرفة إلكترونية تطوق العالم.
لم يعد ممكنا إخفاء الجريمة ومناظر القتل في صراع معتم لايعرف أحد ما يحدث بين جدرانه، كما حصل في مذبحة حماة على 1982 فقد تم تدمير نسيج اجتماعي كامل بعشرات الآلاف من الناس ولمدة 27 يوما بآلة القتل وما من صورة تخرج للرأي العام.
ربما كان نجاة البوسنة وكوسوفو خلفها هو نقل ما يحدث للرأي العام. كذلك ينطبق هذا على الثورة السورية.
إن إهمية الرأي العام لم تعد مسألة تخمينية بل هي توازي فرق عسكرية كاملة، يحاول النظام خوض هذه المعركة الإلكترونية بكل سبيل ممكن. وبخنازير من حظيرته يحاولون إدعاء الحقيقة تحت أسماء أنهم خبراء إستراتيجيون وهم لا يزيدون عن جواسيس تافهين ومخابرات مرتزقة.
دخول الثورة السورية وانزلاقها إلى محور التسلح والقتل يعني إطفاء روحها الأخلاقية.
الكثير يقول لي إنه حماية المتظاهرين وهو الدفاع عن النفس ولكن الخيط الممتد بين الدفاع والهجوم جدا نحيف. كما أن حجة حماية المتظاهرين وانشقاق الجيش تقود إلى احتراب يدفع ثمنه أناس كثيرون.
نحن نعرف عن الحروب الأهلية أنها الأكثر شراسة ودموية وذات نتائج تدميرية أكثر مما يتصورها العسكريون. أمثلة ذلك جاهزة من التاريخ. القرآن يقول سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل.
النظام السوري سوف يسقط على صورة من الصور ولكنه الفرق في النتائج.
تأملوا اليوم تونس وليبيا بعد نجاح الثورة.
الأولى ذاتية وغير دموية وبخسائر بشرية طفيفة، مقابل دمار ليبيا شبه الكامل، وبمساعدة أجنبية يجب أن تدفع ليبيا قيمتها على صورة من الصور.
في الإنجيل قصة معبرة عن العنف والسلام حين جاء يهوذا الإسخريوطي يدل على المسيح. تقول رواية أن بطرس استل سيفه وهمَّ بضرب أحد الجنود. يلتفت المسيح إليه ويقول له لاتدافع عني أغمد سيفك لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك.
التسلح ورطة وارتهان وكلفة ودماء وولادة مشوهة لروح ممسوخة وارتهان للقساة المقاتلين.
تقول الرواية أن المسيح في تلك الليلة الحزينة ألقوا القبض عليه وقدم على صورة محاكمة يسأله فيها بيلاطس حاكم فلسطين الروماني: يقولون أنك ملك اليهود هل أنت كذلك؟ يكرر الحاكم بيلاطس السؤال ثلاث مرات بدون جواب من يسوع المسيح.
ينتهره ويقول أنا بيلاطس أستطيع فعل أي شيء بك أجبني هل أنت ملك اليهود؟
يقول المسيح بخشوع أنت تقول ذلك. ثم يطلق جملة يخلدها التاريخ: مملكتي ليست من هذا العالم.
يقف الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنجلر في كتابه أفول الغرب طويلا أمام هذه الجملة ويقول هنا يتواجه عالمان.
كان اليهود في عيدهم فرحين بالخلاص من المخلص.
يتقدم بيلاطس ليقول عندنا اثنان محكومان بالإعدام بارباس القاتل والمسيح المتهم ويمكن أن نطلق سراح أحدهما فمن تريدون؟
يصيح كل الجمهور بارباس .. بارباس..
يتقدم بيلاطس إلى طست ماء فيغسل يديه ويقول أغسل يدي من دم هذا البريء.
يروي لنا التاريخ أن المسيحية انتشرت حتى روما ويدخل في روع بارباس أنه ما من قوة يمكن ان تنال منه فقد أعطاه السيد المسيح الفداء ولن يموت.
أخيرا يأتيه الأجل مصلوبا مع بطرس وكثير من الحواريين في روما المتجبرة.
سوريا اليوم تولد ولادة أخلاقية والرهان على استمرار الزخم الروحي لحين الخلاص من نظام دموي إجرامي ليس عنده سوى منطق واحد أحكمكم أو أقتلكم.
في القرآن يقول واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من وراءه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن وراءه عذاب غليظ.
واحسرتاه عليك يابشار سوف تسجل اسمك بجنب أتيلا وبول بوت وستالين وجنكيزخان وتيمورلنك عفوا ووالدك حافظ الأسد؛ فهذا الشبل من ذاك الأسد.
إنهم من فصيلة السنوريات بأنياب ومخالب أليس كذلك؟
يا حسرة على العباد ما يأتيه من تنديد من الأمم المتحدة إلا كانوا به يستهزئون.
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون.
وإن كل لما جميع لدينا من زين العابدين والمبارك والقذافي وصالح والأسد محضرون.
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون... يا حسرة عليك يا بشار.. يا حسرة ..
وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون.
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.