تتزايد في الآونة الأخيرة الهجمات على الثورة السورية، وتحاول النيل من كل المعارضة الخارجية بدون استثناء، يحاولون تشويه وجه الثوار في الداخل عن طريق إظهار التيارات الإسلامية المتشددة والمتطرفة كبديل عن الثوار بمطلقهم، والكل يدرك أن معظمهم يخدمون اجندات لا تمت إلى الثورة ولا يخدمون أهدافها. يقف وراء هذه الدعاية المغرضة القوى التي تدعم السلطة بشكل غير مباشر وتحت غطاء المعارضة الداخلية، والمدعمون من قبل الدول التي تريد أن تنهي الصراع السوري لصالح النظام نفسه، وعلى رأسهم روسيا وأيران، بحجة الحوار، ولا حل سوى الحل السياسي السلمي، في الوقت التي كانت الثورة شعارها ولا تزال سلمية، وجالت المظاهرات كل المدن تحت هذا الشعار إلى أن جرفتها السلطة الباغية الوطن إلى هذا الدمار، والإتجاه يمرر بصمت مغرض من قبل الحكومة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية والعربية، تحت حجة تكاثر تيارات الإسلام المتطرف، وهي نفسها التي كانت شريكة في فتح المجال لمثل هذا الظهور، من خلال تهاونهم وعلى مدى سنتين من عمر الثورة. المعارضة والثوار والشعب السوري هم أوائل من طالبو ويطالبون بهذه الطريقة في وضع النهاية للمآسي، لكن لا مكان للذين زهقوا وبتخطيط أرواح الآلاف من الشعب السوري المسالم ودمروا الوطن بفظاعة.

رغم التشويهات، هناك ثورة في سوريا، وهي مستمرة، إن لم تكن كليتها حاضرة على الساحة، فبعضها ساطعة الوجود، حتى ولو كانت قد أزيحت مرحلياً نحو أطراف الصراع الجاري. ومهماما واضحة منذ البداية، لا تقف عند حد السيطرة على السلطة بل إزالة النظام الفاسد بكليته ومن ضمنها التيارات الشاذة، التي ظهرت على الساحة وبقوة، والتي غطيت على بعضهم تحت ضرورات مرحلة الصراع في الوقت الحاضر، علماً أن هؤلاء يغرقون الثورة في فساد لا يقل عن فساد النظام نفسه، ويخدمون السلطة بشكل أو آخر.

المعارضة الخارجية متهمة في كثيره، إما لقلة الخبرة أو لضعف أمام القوى المسيطرة على مسار الثورة، والبعض منهم غارق في مصالحهم الذاتية أو المشتركة مع القوى الغارقة في الصراع. لكن هذا لا ينفي وجود ثورة واضحة معالمها بين الشعب ضد سلطة مليئة بالشرور، ولايعطي الحق لكل متهالك على السياسة التهجم على الثورة من منطق النقد والتحليل وإتهامها لوجود هذه التيارات المتطرفة، أو المجموعات الإنتهازية في المعارضة الخارجية، علماً بانهم على نفس السوية من الإنتهازية والفساد الفكري.

هذه الثورة كسابقاتها حاضراً، أو الموغلة في التاريخ الماضي، سيستمر صراعها مع هذه الأوبئة بعد سقوط سلطة الإجرام، وسوف لن تقف عند حدود إنهيارها. فما خلفه البعث وآل الأسد من الفساد في المجتمع السوري وحوله، ونشرهم لثقافة العدم، تحتاج إلى سنوات من النضال والعمل النوعي الصادق لإزالته، والذين لا يدركون هذه الجدلية أو يغمضون عينا ويفتحون أخرى عليها، هم في كثيره من المستفيدين أو الإنتهازيين الذين جاروها على مدى نصف قرن، متلذذين بالدمار الإقتصادي - الإجتماعي - الثقافي لسوريا، أو يجارون أجندات ذاتية ومنافع حزبية مقيته. فثورة الشعب السوري غيرت وجه التاريخ في المنطقة، وهي من الثورات النادرة التي جمعت حولها معظم القوى الكبرى في العالم، وأثرت على مسيرة الاتفاقيات الدولية، وسوف تثبت مفاهيم حضارية وديمقراطية نوعية في المنطقة بكليتها، والشعب السوري الذي خلق هذه الثورة يستحق من كل انسان ذو ضمير وقفة احترام وتقدير، له ولثورته.

لا شك إن إنحرافات الثورة السورية عن مسارها أصبحت واضحة في كثيره، دخلت في ثناياها العديد من التيارات الإنتهازية، والمتطفلة، والمغرضة. للدول الأوروبية حصة فيها، والعربية الممطية الإسلام سياسة، وللتركية أجندات متنوعة غرزت معها، وافظعها شرور السلطة الحالية والتي تمكنت عن طريق بعض التيارات المتطرفة تمرير الكثير، معظمهم من رواسب المجموعات التي كانت تدربهم للتسويق إلى دول الجوار وعلى رأسهم العراق، وذلك حتى قبل تغيير الثورة السلمية إلى صراع مسلح.

وما الجرائم التي ظهرت على الإعلام، كقتل الجنود، وضرب النساء، بإسم الإسلام والثورة، أفعال خططت لها شبيحة النظام نفسه، وبعضها منبثقة من مفاهيم وإعتقادات دينية مشوهة لا علاقة للثورة ومبادئها بهم. مثلما حدث اليوم وعلى مرأى من العالم، وبتغطية إعلامية واسعة مغرضة، قامت مجموعة تحت اسم الجيش السوري الحر بحصار قوات السلام التابعة للأمم المتحدة في منطقة الجولان تحت حجج باهتة، لتعطي للعالم وجه مغاير للثورة السورية، الوجه الذي تريد أن تبينه سلطة آل الأسد، ومجموعة الهلال الشيعي. ومن خلال هذه الأفعال تتسرب المجموعات التي تحسب ذاتها من المعارضة الداخلية وتهاجم الثورة السورية وتعتم على مفاهيمها وأهدافها بل وتلغيها جملة وتفصيلا.

كما وأن الثورة في بعضه تُهاجَم من قبل منظمات، أو أشخاص، أو دول، يدعمون الثورة ظاهرياً ويساندون السلطة في الأروقة السياسية الملتوية، يعرضون اجندات مغايرة، لا تتلائم وواقع الصراع السوري الحقيقي، فيغرقون الثورة بنقد مغلف بكل الموبقات، إلى درجة أن البعض من المنظمات والمثقفين والسياسيين، ينهونها كثورة، مع نقد للسلطة، وهم مجموعات معظمها خلقتها النظام الحالي، أو لها ارتباطات غير مباشرة معها، وفي مقدمتهم بعض المجموعات المكونة لهيئة التنسيق الوطنية، ربيبة النظام، والمولودة تحت خيمتها على أطراف دمشق وفي حراسة شبيحتها، هؤلاء الذين رفعوا نفس شعارات السلطة منذ بداية الثورة، بدءاً من معارضة التدخل الخارجي، إلى مفاهيم الحوار مع بشار الأسد وتأييد منابعه في الإصلاح، في الوقت الذي لم ينطقوا ببيان عن تدخلات روسيا وأيران وعراق المالكي وحزب الله وغيرهم. ولم يحركوا ساكناً حول الجسر الجوي المخصص للاسلحة بين موسكو وسوريا، وأيران عن طريق العراق، وكانوا ولا يزالون يرفعون شعار سقوط النظام، لكن ليس السياسي، معوضين عنه بسقوط النظام الأمني، وكان هذا هو مطلب السلطة والبعث السني كتغطية لحراكهم المشوه وطنيا وإظهارهم كمعارضة داخلية وطنية.

بيع الوطنيات والنداء بالتعامل الحضاري، كالعودة إلى رفع شعارات الثورة السلمية بعد كل الدمار الذي خلفه النظام المجرم، والحوار مع رؤوس السلطة، ولا حل سوى الحل السياسي، لا يأتي من خلال نقد الثورة والمعارضة على علاتها، ومساواتهما بالسلطة، فالكل يدرك أن ما يجول في أعماق الوطن السوري أعمق من صراع بين السنة والشيعة، إذا كانت هذه هي حجتهم ومنطقهم في نقد المعارضة والسلطة على نفس السوية، رغم وضوح معالم الصراع الحاضر، ولا شك فيها، فإنها ملغية بكليتها، لأن الشعب السوري شعب حضاري، وكانت تتقدم مسيراتهم منذ البدء شعار حفظناه وهو ( سلمية سلمية ) حتى ولو أراد البعض تغطيتها، لكن يحتاج الكل إلى المصداقية مع الذات قبل أن يبديها أمام الآخرين، وخاصة الذين يبيعون الوطنيات ويظهرون الإنزعاج على مصير الشعب والوطن، إن المقارنة بين جلاوزة النظام والمعارضة الوطنية أو الثوار الحقيقيين، إجرام بحق الشعب السوري عامة.

على الكل الثوري والوطني النزيه، أن يجادل الواقع كما هو، بعيدا عن ثقافة البعث وآل الاسد ومفاهيم التعصب القومي المذهبي، فالجميع يدرك ما يتكون منه الوطن السوري من موزاييك متنوع، يجب أن يبحث فيها بمجملها مثلما يجب أن تنظر إلى كيفية إخراج الوطن من الفساد والدمارالذي خلفه آل الأسد، والخلاص من كل المتهالك على الثورة.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

[email protected]