ليس من قبيل المبالغة القول، حينما كنت استمع وربما معي كثيرون لرائعة فؤاد حداد وغناء السيد مكاوي الارض بتتكلم عربي كنا نقول معه الله، وكانت آمال واحلام الشباب العربي انذاك تذهب بعيدا وكما تقول الاغنية بوجد وشوق الى يوم تصبح بلادنا العربية بلدا واحدا او على الاقل ان تصل ما وصل اليه الاتحاد الاوربي من خطوات من وحدة السياسة، ووجود استراتيجية واحدة تجاه القضايا والتحديات، وحرية التنقل والعمل وغيرها من الخطوات غيرت شكل اوربا الممزقة الخارجة من حربين عالميتين اكل الاخضر واليابس في هذه القارة العجوز، وادى الى مقتل الملايين وهدر ثروات هائلة الى اوربا الموحدة الحضارية.

بيد ان هذا الحلم الوحدوي انزوى في وجداننا، امام واقع التجزئة بكل مفرداته، والذي افضى في نهاية الامر الى دول عاجزة عن الوفاء بمتطلبات الحكم الرشيد، لنصبح امام حالة ضعف ووهن استراتيجي، يحاط بالدول العربية من مختلف الاتجاهات دوليا واقليميا، كما ان النظام الاقليمي العربي الذي ارتبط عضويا بالجامعة العربية منذ منتصف الاربعينيات من القرن الماضي، يشهد فشلا ذريعا وتداعيا في آليته التي عفا عليها الزمن، وأضحى هذا النظام مستقبلا للازمات والمشكلات بدلا من ان يكون مبادرا ذا قوة استباقية لمنع حدوثها أو وأدها في مهدها. لذا ليس غريبا ان نرى حالة الشلل والعجز الواضح لهذا النظام في التعامل مع التحديات والتهديدات، وغالبا ما ينتظر تدخلا دوليا سواء من قبل الامم المتحدة او الدول الكبرى لحل مشاكله، وهو امر يعكس حالة الفشل الذريع في هذا النظام او اداوته التي استند عليها طوال عقود من الزمن.

واتساقا مع ماذكر اعلاه، فان ما نراه الان من مشاهد متعددة تعكس عمليا تردي عمل هذا النظام، والمفارقة ان هذا النظام العربي يسير في عكس تيار العلاقات الدولية التي تشهد انماطا من العلاقات تهدف الى مزيد من الوحدة، إذ نرى ان هناك تسارعا في خطوات الاتحاد الاوربي الذي ابتدءا اساسا في الخمسينيات من القرن الماضي من خلال اتحاد الحديد والصلب وتطور وصولا الى الوحدة الاوربية، وهناك مؤسسات فاعلة باتت تمثل وجهة نظر الاتحاد الاوربي في السياسة الخارجية والاقتصاد وعلى مختلف الصعد الاخرى. كما اننا نشهد ايضا خطوات لتفعيل اتفاقية النافتا بين الولايات المتحدة واوربا والمكسيك، وكذلك الامر مع الباسفك وفي اسيا، بمعنى ان هناك ادراكا عالميا ان الدول منفردة لن تكون قادرة على الايفاء بالتزاماتها بعيدا عن اطرها الاقليمية، وبذلك فهي تسعى الى الاتحاد والوحدة مع غيرها، وهو ادراك شمل صعدا اخرى كالاقتصاد حيث نشهد نمو شبكات اقتصادية واندماج مصارف عالمية لتكوين امبروطوريات اقتصادية.

اما عالمنا العربي فيسير بالاطلاق ضد هذا التيار الوحدوي، بل العكس تماما نحن نشهد مزيدا من الانقسام داخل الدولة الواحدة ذهابا نحو نشوء دويلات الطوائف والاعراق، ولاشك ان انقسام السودان الى دولتين انموذجا لهذا التوجه، وبات امرا مقبولا الحديث عن تقسيم الدول العربية بوصفه حلا لمعضلاتها في الحكم والتنمية ومع تنامي مشاعر الكراهية والحقد لاسباب طائفية وعرقية الذي يتم تغذيته يوميا بأساليب شتى، بات الحديث عن الوحدة الوطنية تهمة تساق الى من يتحدث بها، ومثالية يتم الاستهزاء بها، اما من يتحدث بالطائفية فهو واقعي في نظر هؤلاء، في حين ان من يتحدث عن القومية العربية فهو بنظرهم مصاب بالجنون، ويدعي هؤلاء بموت القومية العربية، دون ان يدركوا انهم وقوعيون وليسوا واقعيين، وقوعييون لامراض الفتنة والتشرذم والتقسيم، وان التقسيم لن يجلب الا مزيدا من التقسيم كاحجار الدومينو ولن تسفر الا عن حالة وهن وضعف متراكم سوف تقود في النتيجة النهائية الى زوال هذه الامة عن خارطة الفاعلية اقليميا ودوليا.

ودعني اقول لكم شيئا، حينما كان يسأل المرء عن تعريف ذاته بالخمسينيات والستينيات من القرن الماضي يقول انا عربي ومن بعدها التعريفات الاخرى كأن يقول انا عربي مصري او عربي عراقي او عربي جزائري او عربي سوداني وهكذا..، وفي السبيعينيات والى التسعينيات حينما يعاد نفس السؤال فان الاجابة اصبحت انا مصري انا عراقي انا جزائري انا مغربي وهكذا.. ومنذ منتصف التسعينيات بدء الامر يزداد تقسيما،إذ حينما يطرح السؤال نفسه تأتي الاجابة انا سني انا شيعي، انا حضري انا بدوي، انا امازيغي انا قبطي وهكذا من التفصيلات، وإذا كانت الاجابة الاولى تعكس حالة صعود التيار القومي الوحدوي والحلم العربي، فان الاجابة الثانية تجسد حالة نكوص هذا المشروع لصالح المشروع القطري، الذي فشل ايضا لكي تعكس حالة التسعينيات منه الى الان حالة التجزئة داخل القطر نفسه، وربما ستنشطر الطائفة والقبيلة والعرق الى اجزاء اخرى في منتهى الصغر لنصل الى عرب بحجم النانو لاينظر الينا الا من خلال المجهر، وكأننا بكتريا سامة.. وما يحز في النفس ويؤلمها إنجرار النخبة المثقفة لهذا السعار التقسيمي الى درجة تثير الاستغراب والاشمئزاز معا، هذا التحول السياسي غير المفهوم قاد الى تحول بعض المثقفين من الذي كانوا يصدحون ليلا ونهارا امة العرب اوطاني الى دعاة للتجزئة في العديد من البلدان العربية.

لكن وفي لحظة استيقاظ من كابوس التجزئة والتشرذم توقضني وتنقذني تغريدات السيد مكاوي على مقام بيات من اجواء التشاؤم والاحباط، كي تعاند امراض الطائفية والانقسام وتقول لي الارض بتتكلم عربي الارض.. الارض.