في أي حوار يوسم انه بين مثقفين، او ممثلين لتيار الإسلام السياسي، مع الأخر الدولاتي او دولاني، نسبة الى الدولة، او مع الأخر العلماني والليبرالي، نجد إن الإطار الأيدلوجي أو البرغماتي، يتغلب ويتملك المنهج العلمي، أو الموضوعي، بهدف أخفاءه، لان مهمة الأيدلوجي والبرغماتي دائما هي تسخير الأخر الفكري والهيمنة عليه، بهدف توظيفه لمصلحته حتى لو أدي ذلك، الى الفصل الجذري للمفاهيم عن سياقها المنهجي والتاريخي، وهو ما قد حصل فعلا مع مفهوم الشرعية في حقله السياسي وحقله الثوري، على مدى السنوات الأربع الماضية، في خضم الصرعات الفكرية، بين تيار الإسلام السياسي، الذي يمثله الأخوان المسلمين أولا اكثرمن غيرهم، من مكونات هذا التيار، ان كانت السلفية المتسيسة او السلفية الجهادية، وما يقابلهم من تيارات علمانية، او مثقفي الدولة او الأنظمة، حتى اصبح الجميع يبحث عن سند لشرعيته ومشروعيته السياسية، القائمة فعلا او الثورية الطارئة، بعد الانبلاج الوهمي لعصر " الربيع العربي او الثورات العربية "، كما اطلق عليها البعض.

لقد اصبح " مفهوم الشرعية " أسيرا للفوضى، وهي فوضى ليست خلاقة، بكل المعايير، فلم يبقى احد بدء من رجل الشارع العادي، مرورا بمختلف النخب الاجتماعية والسياسية والإعلامية، وصولا إلى الأحزاب و التنظيمات، التي وصلت إلى السلطة في دول الربيع العربي تحديدا، او التي لا زالت تقاتل للوصول إليها، النموذج السوري مثلا، إلا واستخدم هذا المفهوم، بإشكال مختلفة لخدمة أهدافه وتوجهاته.

هذه الفوضى، اتخذت أشكال مختلفة، منها الخلط بين مفاهيم، لها مجالاتها التي لا يجوز ابتداء، الخلط بينها، وهو خلط مقصود أحيانا، وغير مقصود في أحيان أخرى ومنها ( الشرعية، والمشروعية، والدولة، والسلطة السياسية، والثورة، والدولة العميقة،... الخ ).

وقد تجلت هذه الفوضى، بشكل بارز، بين ثلاث فئات، هي على التوالي المؤسسات الإعلامية، وخصوصا مقدمي برامج ( التوك شو )، في مصر وغيرها من الدول العربية، والفئة الثانية هي تيار الأخوان المسلمين والفئات المؤيدة له، وفي المقابل منهم التيارات العلمانية والليبرالية، حيث قام كل منهم بلي عنق كل مفاهيم الشرعية، وما يرتبط بها من مفاهيم الدولة الحديثة، خدما للأهداف السياسية لكل فئة.&

وفي توضيح لمفهوم الشرعية يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة، بمقال له تحت عنوان، " مفهوم الشرعية " ( تبدو فكرة الشرعية من أهم الأفكار والمفاهيم داخل المنظومة الفكرية ذات التأثير في الحياة الثقافية والفكرية وكذلك السياسية، خاصة أن مفهوم الشرعية برز كترجمة لكلمة Legitimacy، وبرز في الاستخدام العربي كصفة للأفعال والأمور مثل السياسة الشرعية، والمقاصد الشرعية وغيرهما. وتُعرِّف الموسوعة الدولية الاجتماعية مفهوم الشرعية بأنه " الأسس التي تعتمد عليها الهيئة الحاكمة في ممارستها للسلطة. وتقوم على حق الحكومة في ممارسة السلطة وتقبل المحكومين لهذا الحق.ويجب التفرقة بين مفهوم الشرعية "Legitimacyالذي يدور حول فكرة الطاعة السياسية، أي حول الأسس التي على أساسها يتقبل أفراد المجتمع النظام السياسي ويخضعون له طواعية، ومفهوم المشروعية " legality" بمعنى خضوع نشاط السلطات الإدارية ونشاط المواطنين للقانون الوضعي. أي أن الشرعية مفهوم سياسي بينما المشروعية مفهوم قانوني. الأصل اللاتيني لكلمة " Legitimacy " هو"Legitimus" واستخدمه الرومان بمعنى التطابق مع القانون، ولقد أصبح خلال عصر النهضة يعبر عن العقل الخلاق والوعي الجماعي، ويعتبر " جون لوك " أول من استخدم مفهوم الشرعية كأساس لتحليل ظاهرة السلطة..وتطور المفهوم في العصور الحديثة بحيث أصبح يعبر عن اختيار وتقبل المحكومين للحكام والنظام السياسي، وهكذا برز عنصرا الاختيار والرضا كعناصر أساسية لمفهوم الشرعية، ولقد طرحت العديد من التعريفات لمفهوم الشرعية... ).

إذا كانت الشرعية ليست مجرد مصطلح، يمكن استخدامه لخدمة هدف من لا يؤمنون أصلا بالدولة العلمانية الحديثة، او المدنية حسب التعبير الرائج لدى اغلب التيارات السياسية في العالم العربي، فالمكون الرئيس للدولة الحديثة، هو السلطة السياسية، وكل سلطة سياسية، هي سلطة إنسانية المصدر والتكوين، ولا يوجد إي ارتباط بينها وبين السلطات التاريخية، التي كانت تقوم على الأصل الإلهي، أو المستمد من الإلهي ومنها مفهوم الحاكمية في الإسلام السياسي، فهذا المفهوم قائم على المصدر الإلهي المقدس، الذي لا يقبل النقد، ولا يمكن إن تقوم مؤسسات ديمقراطية في ظله، لأنه بالأساس ينسف فكرة الديمقراطية والمواطنة، في الدولة الحديثة القائمة على المعارضة والنقد، و حقوق وواجبات المواطنة المستندة على الدستور الذي يشكل عقد، بين السلطة والسياسية و الشعوب، قدسيته محددة بظرف تاريخي مكاني وزماني نسبي، في أطار للدولة الحديثة.&

إن الأمر ليس مجرد أراء شخصية، لكتاب في مجال الفكر السياسي والقانوني، وإنما يتجاوز ذلك، إلى حالة اتفاق، بين المختصين في المجال السياسي والقانوني، على تضمين مفاهيم ( الشرعية، والدولة، والسلطة السياسية، والثورة ) مضامين محددة، لا تصل إلى حد النسق الفكري الكامل والمغلق، وإنما مفاهيم اتخذت شكل محدد، ضمن سياق تاريخي وفكري وفقهي قانوني، يندرج ضمن التشكيلة المؤسسة للفكر السياسي والقانوني، للدولة الحديثة، وذلك بسبب الارتباط التاريخي بين نشأة هذه المفاهيم، ونشأة الدولة القومية الحديثة في الغرب، ( او الوطنية ) في الشرق العربي، ما بعد مرحلة أفول الاستعمار العثماني.

لذلك لا يجوز، ان يتم التلاعب بهذه المفاهيم، بشكل يخدم المصالح المتعارضة، لإطراف الصراع، خصوصا مفهوم ( الشرعية الثورية )، فليس كل خروج لعدة الإلاف أو ملايين من البشر، إلى الشوارع والميادين يعد ثورة، وليس نتائج صناديق الانتخاب، وحدها في دول لم تألف النظام الديمقراطي بعد، ولم تؤسس ابتداء لمؤسسات هذا النظام، يعد شرعية لا يمكن تغير موازينها ونتائجها.

ومن الغرائب والعجائب السياسية، إن يصبح مفهوم الشرعية الثورية، جزء من القاموس السياسي، لجماعة الأخوان المسلمين، بعد الثورات العربية، مع إن تاريخهم العقائدي والسياسي، مليء بالعداء لكل ما هو ثوري، في تاريخ المنطقة.&

ولكن يبدو إن المشهد في دول الربيع العربي، لا زال ملتبسا، يستعصي على أدوات التحليل والنقد التقليدية، و توصيف مسار الأحداث، وتحركات القوى الاجتماعية والسياسية بها، ولكن كل ذلك، لا يبرر فوضى استخدام المفاهيم، في غير موقعها، وسياقها السياسي والقانوني، الذي درج على استخدامه، في المسار التاريخي الاكاديمي، او العملي للديمقراطيات الحديثة.

ومن جانب أخر، لا بد من الاتفاق ولو نظريا، على إن مفهوم الشرعية، وان لم يكن حديث من حيث المضمون، في العالم العربي، فالصراع عليه وحوله قد بدء تاريخيا من " سقيفة بني ساعدة "، حول شرعية من له الأحقية بحكم الدولة الإسلامية الوليدة، في المدينة المنورة بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة النبي محمد، واستمر بإشكال مختلفة، في مختلف مراحل الحضارة العربية الإسلامية، حتى نهاية الخلافة العثمانية.

والمختلف في الأمر الآن، أن مفهوم الشرعية المتصارع حوله، في العالم العربي دخل في مرحلة " انقطاع تاريخي "، عن مفهوم الدولة والخلافة في الإسلام، لذلك لا يمكن رده أو ربطه بقضية الدولة الإسلامية، وفكرة " الحاكمية "، لان هذا المفهوم، من حيث الشكل والمضمون في الاستخدام المعاصر له، ارتبط بولادة الدول الوطنية، في العالم العربي، التي تشكل اغلبها بنهاية حقبتين، هما الخلافة العثمانية، والاستعمار الغربي.&

فلا يمكن وهذا الحال، إن يتم إغراق مفهوم الشرعية، في صراع تاريخي، سابق لوجوده، وارتباطه بالدولة الوطنية الحديثة، التي ارتبط بوجودها، مفاهيم لم تكن موجودة قبل ذلك مثل مفاهيم المواطنة وسيادة القانون والسلطة للشعب وغيرها من مفاهيم الدولة الحديثة.

&