السياسة لا تعرف المستحيل فهي فن الممكن ولقاءات منتصف الطريق التي تترجم القاعدة القائلة بأن "المصالح تتصالح"، فمنذ سنوات قلائل مضت كانت وسائل الاعلام الأمريكية تتحدث عن سيناريوهات قصف المنشآت النووية الايرانية، واليوم يتحدث الجميع عن شروط اتفاق نووي وخطوة راديكالية في مسار العلاقات الامريكية ـ الايرانية، وهو أمر بات مرجحاً بدرجة كبيرة، لاسيما بعد التوصل إلى خطوة مماثلة في العلاقات بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية.
من هنا لا أستغرب، شخصيا حدوث تحولات دراماتيكية في مسارات العلاقة بين الدول، بل أبحث فوراً عن الأبعاد الماورائية للأحداث في سعي دؤوب لفهمها واستيعاب أبعادها ودوافعها ومن ثم تأثيراتها الاستراتيجية المحتملة. وفي ضوء ماسبق لا استطيع منع نفسي من المتابعة الجادة لكل مايكتب عن مستقبل تنظيم داعش، ولاسيما مايتعلق بالسيناريوهات التي تبدو للكثيرين بمثابة تغريد خارج السرب،& وأقصد تلك التحليلات التي تتحدث عن بقاء التنظيم و "دولته" خلال السنوات المقبلة، وانتقال العالم من حالة الصراع مع التنظيم إلى حالة البحث عن مخارج تفاوضية تشرعن وضعه الاقليمي والدولي!!
منذ فترة تناولت في مقال لي، أحد طروحات البروفيسور الأمريكي المعروف ستيفن والت، والتي ناقش فيها احتمالية انتصار تنظيم داعش في المعركة الدائرة حاليا بالعراق وسوريا، وذكرت أن مناقشة والت كأحد علماء السياسة البارزين لهكذا احتمالية يتطلب التعامل البحثي الجاد مع الفكرة، طالما انها باتت تطرح على هذا المستوى البحثي الرصين، لاسيما أن والت لم يكن خياليا في طرحه بل ذكر أنه لا يعني بانتصار داعشأن يتمكن قادة هذا التنظيم من تحقيق طموحاتهم بنشر نفوذهم في جميع أرجاء العالم الإسلامي وإقامة دولة الخـلافة المـزعومة من بغـداد إلى الرباط، بل يعني، تحديدا، أن يحافظ داعش على سيطرته على المناطق التي استولى عليها، وأن ينجح في تحدي الجهود الخارجية الرامية إلى تقويضه وتدميره، وهو احتمال وراد بدرجة كبيرة في ضوء تطورات الأحداث على الأرض، وفي ظل عجز الجيش العـراقي عن شن هجوم مضاد ناجح، حسب ما قال البروفيسور والت.
ذكرت أيضا أن هذا النقاش يعبر عن الذهنية الأميركية القائمة على التفكير في الاحتمالات كافة، بغض النظر عن الموقف الذاتي تجاه هذه الاحتمالات، أو بمعنى آخر القيام بالدور المتوقع من مصانع الفكر في دراسة السيناريوهات كافة، السيئ منها والجيد على حد سواء، لا تقديم "دراسات تبريرية" للسياسات والخطط والبرامج القائمة.
الجزئية الأهم في مقال ستيفن والت أنه طرح فكرة الاحتواء للتعاطي مع تنظيم داعش، معتبرا أن التنظيم، ودولته المزعومة، لن يكونا لاعبا عالميا كي يتم إهدار القوة الأميركية في مواجهته، ومبررا ذلك بأن حشد نحو 25 ألف جهـادي من بين سكـان العالم الذين يبلغ تعدادهم نحو سبعة مليارات نسمة ليس بالأمر الذي يثير قلق القوة العظمى الأولى، وهذا يعني استعداد بدرجة ما للاعتراف بالأمر الواقع والقبول ولو مؤقتا بفكرة وجود دولة لداعش في الاقليم مستنداً غلى تاريخ حركات راديكالية عدة فشل العالم في القضاء عليها وانتهى إلى الاعتراف بها والتعايش معها على مضض في النهاية.
هذا الطرح له ماله وعليه ما عليه، ولكن متابعتي للنقاشات البحثية الغربية تشير إلى أن ستيفن والت لم يكن يعبر عن فكرة معزولة أو شاردة، بل تبدو مثل كرة الثلج التي تتدحرج وتكبر تدريجيا في مراكز صناعة الفكر الاستراتيجي الغربي، حيث تحدثت عنها مقالات اخرى في صحف غربية، منها ما كتبه فريدريك اليسون وجانين دي جيوفاني في تقرير نشرته مجلة "نيوزويك" مؤخرا تحت عنوان "عزيزي داعش, نحن بحاجة للحديث"، حيث انطلقا في من كتاب الرئيس السابق لموظفي مكتب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير, جوناثان باول, الذي صدر بعنوان "الإرهابيون على طاولة المفاوضات: لماذا يعد التفاوض السبيل الوحيد إلى السلام" وقال فيه أنه من الصعب هزيمة التنظيمات الإرهابية التي تتمتع بدعم شعبي كبير عن طريق القوة بمفردها، حتى إذا استخدم الغرب تدابير وحشية للغاية، وأن ذلك ينطبق على الحركات القومية والجماعات الدينية المتطرفة.
المؤلف البريطاني للكتاب يقول أنه من السذاجة الاعتماد على القوة وحدها لدحر الإرهاب، منوهاً إلى أن التفاوض مع الإرهابيين لا يعني المغفرة أو نسيان الماضي، وإنما جعل وقف إراقة الدماء أولوية قصوى. وبتطبيق هذا الفكرة على داعش، يقول والي نصر، البحث الأمريكي الايراني الأصل وعميد كلية بول نيتزه للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز أن التفاوض ممكن مع أي طرف من الناحية التقنية، ولكن المشكلة هي أن هذا النوع من التنظيمات المتطرفة لا يكون مستعداً دوماً للتفاوض، ويرى أن التفاوض مع داعش يحتاج إلى كسر شوكتها أولا كي يقتنع قادة التنظيم بقبول الفكرة ويؤمنوا بأن التفاوض ينطوي على مكاسب لا يمكن تحقيقها عن طريق مواصلة الحروب.
ربما يستهجن البعض حدوث هكذا تحولات في الخط السياسي الأمريكي، وقد يستبعد آخرون ذلك، ولكني اعتقد أن الباحث والسياسي يقعان، كلاهما، في خطأ فادح حين يحصران بدائلهما ضمن دائرة ضيقة للاحتمالات، ونظرة واحدة على ملفات الماضي تؤكد ذلك، فالسياسة الأمريكية المعلنة، التي صيغت في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان منذ ثمانينيات القرن العشرين بشأن حظر التفاوض مع الارهابيين تعرضت للاختراق مرات كثيرة، منها تفاوض إدارة بوش الابن مع حزب الله اللبناني على إطلاق سرح رهائن أمريكيين احتجزوا في اوائل التسعينيات، والتفاوض مع حركة طالبان الأفغانية مرات عدة آخرها عام 2014 عبر وسطاء قطريين لإطلاق سراح رهينة أمريكي عام 2014، وغير ذلك الكثير من الأمثلة مما قد لا يتسع المجال لحصره.
بالأخير، فإن العقل البحثي الغربي بشكل عام لا يستبعد احتمالية الاضطرار للتفاوض مع أي تنظيم أو جماعة توصف بالإرهاب في حال ظهور واقع ومصالح تفرض نفسه على مخططي السياسات الغربية، ومن لا يصدق ذلك عليه أن يراجع بعض الكتابات الأمريكية التي تتحدث عن التعاون جبهة النصرة التابعة لتنظيم "القاعدة" في سوريا، حيث تشير هذه الكتابات إلى أن منظري الجبهة الارهابية قاموا بمراجعة فكرية وتخلوا من خلالها عن العداء للغرب وأعلنوا ذلك على لسان أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصر في تصريحاته الأخيرة لقناة "الجزيرة"، ومن ثم تدفع هذه الكتابات في اتجاه التعامل مع "القاعدة" في سوريا باعتبارها حليفاً ضد داعش، وتصف فرعها هناك بالميل إلى الاعتدال!!
قناعتي الذاتية أن الغرب يتحرك وفق حساباته ومصالحه وأيضا أهدافه الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد، وهذا أمر بديهي ومفروغ منه، وبالتالي يصبح من الوارد أن يلجأ الغرب فعليا إلى فتح نافذة حوار أو تفاوض مع شياطين داعش ـ ولو عبر وسطاء وقنوات خلفية غير مباشرة ـ ومن ثم فإن على الدول العربية، والخليجية على وجه الخصوص، تفادى أي عنصر مفاجأة على هذا الصعيد عبر مناقشة مثل هذه السيناريوهات المحتملة مع مراعاة احتمالية حدوثها بدرجة أو بأخرى، كي يمكن بلورة بدائل استراتيجية مناسبة للتعامل معها وفق مصالح دولنا وشعوبنا، وكي لا نستمر في الدوران داخل مربع تلقي الضربات أو سياسة رد الفعل، وننتقل إلى امتلاك زمام المبادرة والمبادأة وطرح الحلول والمقترحات التي تتعامل مع الأزمات وفق ما تسفر عن المشاورات مع الحلفاء الدوليين وبشكل يراعي مصالح الجميع وليس مصالح طرف دون آخر.
&