&
& &أمس، وصلتني على (الواتسآب) مقالة الأستاذ فخري كريم "أبٌ يحمل كفن ولده ويبحث له عن قبر!"على الساعة الواحدة وثلاث عشرة دقيقة حسب توقيت بريطانيا. ففجعتني حقا، لما انطوت عليها من أحزان ومداليل ومفارقات مريعة من جانب، ولأنها تمسّ صديقا مبدعا من جانب آخر. فكرت أن أعبّر عن مشاطرتي حزنَ صاحبي(أبي أورفيوس)- الأب، الشاعر، المترجم، والباحث والإنسان المثابر. فقلت لنفسي، كيف يُمكنني أن أخون الأمانة مدّعيا السبقَ في طرح الموضوع، قبل أن يرى مقالُ صديقنا (أبي نبيل) النورَ في اليوم التالي. إذن، فمن اللياقة بمكان، ينبغي عليّ مكابدة أحزاني وموقفي من هكذا قضية حتى اليوم التالي، ليحقّ لي نشرُ كلمة في هذا الخصوص. لكنني حينما فتحت الفيسبوك صباحا، على غير عادتي هكذا بمحض الصدفة، قرأتُ مادة للصديق الروائي والشاعر د. برهان شاوي عن القضية ذاتها، فقلت، لابد من تمرير هذه الكلمات على عجل، إزاحة لعبء إنساني وصداقي، ولأنها قضية عامة بقدر ما هي خاصة، لكثرة الموت المجاني والفواجع في العراق والمنطقة.
& &جلال زنكبادي(جلال وردة سابقا)-كما عرفته عبرَ كركوك التي عملتُ وكتبتُ فيها مطلع السبعينات، بعد تخرجنا من جامعة بغداد وثمة خدمتنا العسكرية الإجبارية لسنة، أقول، جلال زنكبادي- المتعدد المواهب: الشاعر المتمرد والتجريبي المُجَرِّبُ، والمترجمُ الخصب، والباحث والإنسان، يُعاني منذ سنوات من شظف العيش والإهمال، ناهيكم عن تدهور صحته وتضاؤل قدرته على السمع، حتى صارتْ زوجته(أم أورفيوس) معينَهُ في محنته السمعية والحياتية.
& جلال زنكبادي العراقي بالولادة، الكوردي من حيث الأصل والفرع، له وطنان: العراق –بلد النفط والغاز والخيرات، وكوردستان الحاضرة مثل عظمة في حلق جغرافية المنطقة، الغائبة كدولة وهي تستحقها بجدارة. وكردستان العراق شبه مستقلة وهي بدورها تنعم بخيرات ليست قليلة. أقول، جلال ذو الموطنين، يبدو عاريا، مُسْتلبا من فضيلةِ أن يكونَ للمرء وطنان. كان الشاعر والمفكر المعري يوصف بأنه("رهينُ المحبسينِ"- البيت والبصر المفقود) أما جلال فهو رهينُ محبسين لا يرحمان هما: العراق وكردستان"، يبدو هذا المغبون الحقوق أنه إنسانٌ لا وطنَ له سوى الشعر والإبداع. هذا "الجلال" يخوض منذ سنوات، معركة وجودية على أربعةِ محاور هي: &صعيد الهم الوجودي- الإبداعي، وصعيد العلل الجسدية الشخصية، وصعيد الفاقة والحرمان وعدم اكتراث المسئولين بما لحق به، على أنّ الصعيد الأكثر مضاءً وقسوةً والذي يقض مضجعه منذ فترة، هو مرض ابنه ذي الثلاثين وردة، الذي لم تنفع مع سرطانه أدويةُ وعلاجات المنطقة المصابة هي نفسها بأدرانٍ وسرطاناتٍ متنوعة. هذا الابن الشاب، بات يُشكّلُ لأبيه ومُحِبّيه همّا نفسيا – وجوديا ومُعضلة إنسانية وأخلاقية. ولعلّ المفارقة الأخلاقية- الإنسانية الكبرى في هذا المقام هي التي تُثير فينا كل هذا الرعبَ والألم والاشمئزاز. إذ كيف لمَوْطِنينِ وثَرْوَتينِ هائلتينِ، جنوبا وشمالا، أن يَسْمَحَا لمبدعٍ معطاء ومثقف حيوي، أن يرى ابنه يموت أمامه، ولا يستطيع مساعدته أو انقاذ حياته من جهة، وحينما يحسُّ الأبُ بعجزه، يشتوي حرقةً وألما، لأنه لن يستطيع من دفع تكاليف دفنه! هذه مفارقة مأساوية لا يمكن لها أن تحصل إلا في البلدان المتخلفة، عديمة الرحمة، ذات الأنظمة الفاسدة، والشعارات الخادعة الفارغة. إنها محنة المثقفين والكفاءات والشرفاء في العراق. إنها أحد الأوجه الكالحة لمحنة المعرفة والثقافة في المنطقة، وبلاد ما بين النهرين على وجه الخصوص.&
& عزيزي جلال، إننا معك في محنتك التي هي أحدُ أوجهِ مِحَنِنا التي تَخِزُ ضمائر الشرفاء وتؤرقهم، والتي تحتاج إلى غيرةٍ وشرفٍ وإنسانية ومسئولية لحلّها أو تخفيفِ وطأتِها على أقلّ تقدير. للأسف الشديد، لم يَعُدْ لمثلِ هذه الصفات الإنسانية- الوطنية- الأخلاقية الآنفة الذكر مكانةٌ في عقول ونفوس غالبية السياسيين والمسئولين. إننا نعيش محنة اضمحلال الضمير والإيمان الحقيقي، وإذا ما بقيت عليه الحال كما هي الآن، فماعلىينا سوى أن نحضّر أكفاننا بأنفسنا قبل موتنا، لأن القبور هي الأخرى مكلفة في هذه الأيام من كثرة الموتى!
&