من دون رغبة مني قادتني قضية جنائية قتل فيها إبن لأحد أقاربي الى بيت آمر لواء كردي كلف بإجراء مصالحة بين عائلتي الجاني والمجني عليه فيما يعرف عندنا في كردستان بـ(الصلح العشائري).. وهذه عادة موروثة منذ مئات السنين أن يلجأ ذوو القتيل والقاتل الى التصالح بدفع الدية مقابل التنازل عن الدعوى القضائية للإقتصاص من القاتل، وأعتقد أن هذه العادة الخاطئة تتعارض مع مبدأ إحترام القانون، حيث يفترض أن يعطى القانون خصوصا في القضايا الجنائية مجالا لكي يأخذ مجراه وينال المجرمون جزائهم العادل تمثلا بالآية الكريمة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، لأني أعتقد أن ملايين الدولارات التي قد تدفع (دية) لا تساوي قطرة دم هدرت من إنسان مظلوم أو بريء حتى لو كان القتل خطأ..
على كل حال وجدت عند هذا الآمر جمهرة كبيرة من الحراس والخدم.. عشرة حراس في الباب، وعدد آخر منهم داخل البيت يخدمون الضيوف بملابسهم العسكرية، يقدمون الماء والشاي، ويقف البعض منهم بخشوع و إجلال عند ناحية الباب بإنتظار إشارة من أصبع السيد آمر اللواء الذي قد لا يكون أتم الدراسة الإبتدائية، أو يملك حتى شهادة التخرج من مراكز محو الأمية وهو يحمل رتبة اللواء؟!!. وكنت في السابق قد إلتقيت أيضا بنائب قائد منطقة عسكرية برتبة (عميد) وكان كصاحبنا آمر اللواء محروما للأسف من أية شهادة مدرسية، ولكن نسرا ذهبيا وثلاث نجمات كانت تلمع على كتفيه، وكان أفراد الشرطة والعسكريين يؤدون له التحية الرسمية أثناء مروره بالسيطرات ونقاط التفتيش ( حرس سلام خذ)، وقد يكون بين هؤلاء الحرس من تخرج من الكلية العسكرية برتبة ملازم؟!.. وتلك هي سخرية القدر!!!..
لقد تم تعيين الكثير من أفراد البيشمركة الذين شاركوا في النضال بجبال كردستان لمقاومة النظام الدكتاتوري السابق كضباط في قيادة قوات البيشمركة، تحول البعض منهم الى قوات حرس الإقليم، أو الى تشكيلات الجيش العراقي، فيما إحتل آخرون رتبا مرموقة في مؤسسات الشرطة والأمن المحلي، بينهم أحد المضمدين الصحيين الذي كان يملك دكانا صغيرا ملحقا ببيته في حي شعبي بمدينة أربيل يزرق الأبر ويضمد الجروح البسيطة، وأصبح اليوم مديرا لشرطة مدينة كبيرة في كردستان برتبة مقدم،مهمته هذه المرة جرح المواطنين داخل سجن مديريته..
لو عادت بنا الأيام الى الوراء قليلا، وتحديدا الى حقبة الستينات وهي حقبة الإنقلابات العسكرية، لأمكن لآمر اللواء الكردي هذا، أن يقود مراتب وجنود لوائه للإنقلاب على السلطة وإعلان الأحكام العرفية في البلاد وثم تأسيس مجلس قيادة الثورة تحت قيادته، وتشكيل حكومة عراقية جديدة برئاسته وإدارة شؤون الدولة عن طريق مترجم من اللغة الكردية الى اللغة العربية؟؟!!. فهو اليوم يفوق في الرتبة الزعيم عبدالكريم قاسم الذي تولى رئاسة العراق برتبة مقدم، وكذلك العقيد معمر القذافي الذي ما زال يحكم بلدا عربيا منذ ما يقرب من أربعين سنة برتبة أقل من الجنرال الكردي.وكان ديغول يحمل نفس الرتبة عندما خاض الحرب العالمية الثانية؟؟!!!!!.
إتخاذ الخدم والحشم والحراس وأطقم الحماية من قبل مسؤولي الحكومة وأنصاف المسؤولين في كردستان يعتبر من مظاهر الفخفخة والأبهة والتفاخر،وهي مظاهر لو حللناها في إطارها السايكولوجي، فإنها تدل على أن صاحبها يعاني من عقد نفسية وضعف في الشخصية وكبت مرضي يمهد للإصابة بداء العظمة. مع ذلك هناك من لا يتردد في تضخيم تلك المظاهر حوله ليشعر الناس بأهميته ومكانته، فكلما زاد عدد أفراد طاقم حماية المسؤول كلما أشعرته بهيبة أكبر عند الناس، ولا يهم إن كانت شهادة هذا المسؤول أدنى حتى من أحد أفراد طاقم حمايته،فالمهم هو المظاهر ولا شيء غير المظاهر.. حتى أن بعض المسؤولين في الحكومة أو الأحزاب من هذه الشاكلة، لا يتحرجون من قطع شوارع داخل الأحياء التي يسكنونها على مرور سيارات المواطنين قرب بيوتهم، ويعتبرون ذلك أيضا من مظاهر الأبهة والتفاخر، فهناك العديد من الشوارع في أحياء من مدينة أربيل مقطوعة على المشاة والسيارات وحتى العصافير لأن فيها بيت الوزير الفلاني أو عضو قيادة الحزب العلاني، فهؤلاء يعيشون اليوم بفضل ) التحرير) داخل أسوار من الكونكريت المسلح،بل حتى سياراتهم يضللونها بالزجاج الأسود لكي يحجبوا أنفسهم عن الناس!.تحرر الناس فسجنوا أنفسهم؟؟!!..
كان عمر إبن الخطاب وهو أمير المؤمنين يقود دولة إسلامية مترامية الأطراف، يفترش حصيرة مهترئة أمام المسجد ينام فوقها ملء جفنيه، فقيل فيه ( عدلت فنمت )..
وكان الباشا نوري السعيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي يخرج كل صباح الى المخبز القريب من بيته ويقف ببجامته المقلمة في الطابور ليشتري بعض الخبز لعائلته، ( عدل فأمن)..
وكان عبدالكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز ورئيس وزراء العراق يخرج من مقره بوزارة الدفاع في ساعات الفجر الى باب الشيخ ليجلس الى جانب بائع الشاي على رصيف من أرصفة كراج النهضة ليفطر القيمر بالخبز والشاي، ( عدل فسهر)..
كان صدام حسين هو الإستثناء في سنوات حكمه.. لإنه كان مجرما دمويا فتك بالشعب العراقي وعادى جميع فئاته، سرق وقتل وإنتهك الحرمات، سبى النساء ويتم الأطفال، فلم يعدل ليأمن..
كانت حياته اليومية، حركاته سكناته كلها مرسومة وفق خطط أمنية..هاجسه الوحيد هو الأمن الشخصي والإحتراس من القتل والإغتيال، وكان يدعي البصيرة النافذة في قراءة أفكار الغير المتربصين بحياته، فكان يقتل لمجرد الشك..
إنتقل ذلك الهاجس الى قادتنا ومسؤولينا في كردستان، مع أن هؤلاء كانوا يناضلون في الجبال لسنوات طويلة حاملين على أكتافهم هموم الشعب، مناضلين من أجل حقوقه، يبذلون أرواحهم من أجل قضية عادلة آمنوا بها وكرسوا حياتهم من اجل تحقيق آمال الشعب.. عندما كانوا كذلك أمنوا..لكنهم بعد أن ذاقوا حلاوة السلطة وتمتعوا بالجاه والسلطان إنقلبوا على هذا الشعب، فتملكهم الرعب من الإنتقام والإغتيال وأصبحوا يخافون حتى من ظلهم، فأحاطوا بيوتهم ومقراتهم بجدران الكونكريت المسلح، وضللوا نوافذ سياراتهم بأستار سوداء، ولم يعدوا قادرين على الخروج الى الشارع أو الإختلاط بالجماهير، أو إستقبال أقرب المقربين إليهم من دون تفتيش دقيق حتى داخل ملابسهم الداخلية؟!..
وأصبح لهم جيوش من أفراد الحماية.. لواء خاص، جهاز إستخباري خاص، جهاز أمني خاص..متاريس وسيطرات، النقطة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة والعاشرة قبل الدخول على السكرتيرالشخصي الذي يكون في العادة من أفراد إستخباراته أو جهازه الأمني أو إبن أحد أقاربه المخلصين؟؟!!..
هناك أحصائية غير رسمية تشير الى أن عدد أفراد حماية المسؤولين في إقليم كردستان يربو على 182 ألف شخص يستنزفون جزءا معتبرا من ميزانية الحكومة برواتبهم ومخصصاتهم ومصاريف وقود سياراتهم..ويا لها من مصادفة عجيبة أن يتماثل العدد مع عدد ضحايا عمليات الأنفال؟؟!!!..
فمم يخاف سادتنا اليوم؟!.
من الشعب الذي ثاروا من أجله وناضلوا في جبال كردستان لتحقيق حقوقه وتوفير الأمن والأمان له؟!.أم أن الحياة أصبحت عزيزة عليهم يخافون عليها بعد أن كانوا مستعدين لبذلها في سبيل قضية شعبهم؟!.
مم يخاف هؤلاء وقد أوصلوا كما يدعون شعبهم الى بر الأمان وحققوا لهم عزتهم وكرامتهم؟!.
لماذا يخافون وهم يدعون أن الشعب إختارهم بإرادته الحرة في إنتخابات برلمانية ديمقراطية نزيهة؟!.
لماذ يخافون وهم يقولون أنهم يعملون من أجل تحقيق الرفاهية والديمقراطية وبناء المجتمع المدني لشعبهم؟!.
لماذا يرتعبون من الخروج الى شوارع مدن كردستان ليعاينوا هموم المواطن في ظل أزمات معيشية خانقة؟!.ولماذا يتخوفون من تفقد أحياء المدن البائسة ليستمعوا الى آهات وأنين العوائل المحرومة من أبسط متع الحياة؟1..
لماذا غلت عليهم حياتهم، مقابل إسترخاص حياة مواطنيهم الذين يواجهون قساوة الحياة وحدهم من دون معين أو نصير حتى من القادة الذين إنتخبوهم؟!.
اليس إنزواء هؤلاء وراء كتل كونكريتية مسلحة محاطين بمئات أفراد الحماية دليل على وجود خلل ما في العلاقة بينهم وبين شعبهم؟!.
أليس هذا دليلا على إنتهاء العقد الذي أسميه ( عقد المحبة والإخلاص ) بينهم وبين مواطنيهم الذي إنتخبوهم وجعلوهم أسيادا على هذا الشعب؟!.
ألا يعني ذلك أن المواطن بدأ يفقد ثقته بقيادته كما فقدت تلك القيادة ثقتها بهذا الشعب فأخذت تحترس منه وتتخوف من الإختلاط به؟!.
ألا يدل هذا الهاجس الأمني على أن السلطة في الإقليم بدأت تتجه الى الدكتاتورية بتشبهها بالنظام المقبور، وأنها أصبحت اليوم في واد والشعب في واد آخر؟!.
علام يدل هذا الهجر، وهذ الرعب الأمني، إن لم يدل على وجود خلل ما في العلاقة بين السلطة والشعب، وأن الثقة باتت مفقودة بينهما، وأن هناك حاجة لترميم العلاقة وإعادة الثقة وليس توسيع المسافات بين الشعب والقيادة بالإهمال المتعمد لحاجات الناس وعدم الإلتفات لمعاناتهم اليومية؟!.
كيف يتحقق ذلك وسادتنا في العلياء محلقون، صم بكم لا يشعرون.. لا يسمعون الآهات ولا تهتز ضمائرهم لأنين الثكالى وأصوات الجوعى المكتوين بنيران الأزمات المعيشية التي تطحن رؤوس المواطنين البائسين؟!..
كيف يمكن لمن يعيش في العلياء أن يسمع همسات المحرومين بعد أن كممت الأفواه وقمعت الأصوات التي طالما صدحت بالهتاف لإسقاط الدكتاتورية السوداء؟!..
كيف يمكن لمن يعاني من التخمة المفرطة أن يشعر بجوع إنسان فقد كل أمل له في الحصول على لقمة هنيئة مريئة بعز وكرامة؟!.
أما آن الأوان لتنتهي هذه المأساة، وتثوب القيادة الى رشدها وتعود الى الأحضان الدفيئة للشعب الذي جاد لها بأنهار من الدماء؟!.
ألم يحن الوقت لتدارك الكارثة الوشيكة قبل أن تجرف السيول والعواصف كل القصور العالية والفيللات الفاخرة والمزارع الزاهرة المبنية على دماء هذا الشعب المنهار؟!..
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم

شيرزاد شيخاني

[email protected]