هناك، حيث وقف طارق بن زياد شامخا يرفع سيف الوطنية والقومية واندفع يشق به البحر ليوحد خلق الله تحت راية التعايش المستقيم، يقف اليوم آلاف المواطنين على امتداد أيام وليالي السنة يذرفون الدموع الحارقة ترحما على أرواحهم وهم يواجهون عدوا لا يرحم كل من يركب أمواجه مكرها، أعناقهم مشرئبة إلى الأفق البعيد، إلى ما وراء البحر يحلمون بالهجرة من الموت البطيء إلى الأمل في الحياة... الهجرة إلى التنمية الحقيفية... إلى حيث الكرامة... إلى الوطن - وطن يمنحهم حق المواطنة بعدما جردوا منها فوق أرضهم وتقطعت بهم السبل حينما لفظهم وطنهم - وهم يرددون بصوت يخترق هدير البحر : ''... يوجد الوطن حيث توجد الكرامة.. ''.
الهجرة هي من مميزات كل الكائنات الحية : بها انتشر الإنسان والحيوان وقامت الحياة فوق كل القارات.


الهجرة إذا ظاهرة طبيعية وجدت مع وجود الإنسان والحيوان فوق الأرض، فهما بطبيعتهما دائما الحركة والتنقل والترحال يعيشان بلا حدود ولا يستقران إلا حيث ومتى تتوفر مقومات حياتهما، يهاجران بكل حرية في أي وقت وإلى أي مكان بحثا عن ظروف أفضل لعيشهما وبقائهما، فهي من السنن المؤكدة لاستمرار الحياة البشرية والحيوانية على كوكب الأرض.


الهجرة اليوم هي البحث عن الكرامة... عن السعادة... هي البحث عن الحياة بتفاصيلها... هي حق طبيعي لكل إنسان.
حياة الإنسان ndash; كما هي حياة الحيوان ndash; لا يمكن أن تستمر داخل حدود مغلقة وفي ظروف قاسية، ومتى سلبت حريته في التنقل والحركة وطوق بأي نوع من أنواع الحواجز ndash; مادية كانت أم فكرية أو معنوية - هلك وانقرض وهذه من كبائر الجرائم.
الأرض جزء من ملك الله لم يسجلها باسم أحد أوجد فوقها الإنسان ليعيش عليها ومنها حرا لا تحده الألوان والأعراق وسطر له قانون التعايش لا تستقيم حياته إلا في إطاره.


إذا ما آمنا بهذه القاعدة الطبيعية فلماذا وضعت الحدود للحياة البشرية - حدود فكرية واقتصادية واجتماعية وجغرافية - ومن وضعها؟؟
الله عز وجل وضع حدا لعمر الإنسان، كسائر الكائنات، في سنوات بالموت والفناء لأسباب لا يعلمها إلا هو سبحانه ومن بعده الأنبياء والرسل ثم العلماء الأجلاء... و ربما لتجديد الحياة البشرية واستمرارها والحفاظ على توازن الكون، لكن أن يضع الإنسان حدودا بينه وبين أخيه الإنسان قد تكون حدا لاستمرار حياته أمر لا يحتاج إلى العلم والعلماء لتفسيره ولا لمجهود فكري لفهمه.


رسم الحدود هو مظهر من مظاهر الجشع البشري يفرضه الفرد أو الجماعة كخطوط حمراء تنزهه(م) عن باقي مكونات المجتمع : خطوط حمراء في التفكير والتعبير، خطوط حمراء في الامتلاك والاغتناء، خطوط حمراء في التنقل والهجرة... خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها إلا لمن ينتمي لنادي الكبار. فالحكام والأغنياء بنوا بينهم وبين عامة الناس صور ذي القرنين وأحاطوا إمبراطورياتهم بحواجز ناسفة مبرمجة على دماء الفقراء. لهذا يمكن القول إن مثل هذه الحدود التي تتنافى مع القانون الرباني للتعايش البشري ( كالسيادة الطبيعية والقانون العام والمبادئ والأخلاق والثقافة واحترام الغير...) هي حدود عنصرية من ابتكار الفكر البرجوازي والسلطوي الشاذ، وهو فعل إجرامي وجب محاكمته عوض محاربة الهجرة الطبيعية ومحاصرة أو اقتناص الباحثين عن الحياة.


فإذا ما أراد ذوو النيات الحسنة أن يحاربوا مخاطر الاكتضاض السكاني والازدحام العمراني فليس بوضع الحدود الجغرافية المفخخة والقانونية الجائرة بل عليهم أن يلغوا الفكر العنصري وإلى الأبد ويتبنوا سياسة علمية منصفة وعادلة مشتقة من الأحكام الإلهية لا تفرق بين الألوان والأعراق والطبقات، ويعيدوا حق الحياة الكريمة لكل الإنسانية بتعميم التنمية البشرية بكل صورها الصادقة وليس كالتي نعايش عذابها في بلادنا الشريفة منذ ما يزيد عن خمسين سنة التي أجبرت وتجبر آلاف المواطنين على الفرار من وطنهم والهجرة إلى التنمية الواقعية القائمة وراء البحار ولو بالانتحار.


لكن المغادرة الإجبارية للوطن التي فرضت على المغاربة ليست هجرة طبيعية بل هي تهجير قصري وهجر ممنهج:
أ) - تهجير قصري تمارسه الأقلية المهيمنة على السلطة والثروة على الأغلبية بسياسة التمييز والقمع والتفقير والتجويع للتخلص من ثقلها الديني والتربوي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي... تهجير قصري بتعذيب الاقلية الحاكمة للأغلبية بسياسة النفاق والكذب والتحايل وتعميق جراحها بمخططات '' تنموية '' فاشلة لم تزد الجياع إلا جوعا والفقراء إلا فقرا والبؤساء إلا بؤسا، ومنحت الأغنياء مزيدا من فرص الاغتصاب والنهب والاغتناء وتهريب الثروات:

- ألا يرى حكامنا ازدياد أعداد الجائعين الذين يتسابقون مع القطط والكلاب الضالة على صناديق القمامة بالليل والنهار بحثا عن استمرار حياتهم؟ ألا يرون أمواج المتسولين التي تكتسح ربوع الوطن على امتداد ساعات السنة؟ ألا يرون أفواج المشردين الذين تكتض بهم شوارع ودروب وأسواق مدننا وقرانا؟ ألا يرون فيالق اللصوص والمجرمين كيف تنشر الرعب في البلاد وتداهم وتقاتل المواطنين في كل مكان؟ ألا يرون استفحال ظاهرة الدعارة بكل صورها والشذوذ والفساد الأخلاقي والإقتصادي والاجتماعي؟...؟ هل يتظاهرون بالعمى والصمم أم هم راضون عن خططهم '' التنموية '' كل الرضا؟؟


- وهل التنمية البشرية تتطلب هذا التناسل المهول للجمعيات '' الخيرية أو الخدماتية '' والأحزاب الببغائية والمؤسسات الفئوية؟... - هل تربية الأرانب والمعز، وتوزيع الحروف الأبجدية ومبادئ التسول تنمية، يا وطني؟ ألم يقل الصينيون ( علمه كيف يصطاد السمكة ولا تعطيه السمكة )؟ - هل أسبانيا والصين وكوريا و... نمت، في وقت وجيز، شعوبها بمثل هذه الأدوات البدائية، وبالكذب والتحايل وبيع الوهم بأثمان باهظة؟


- هل هذه العمليات التنموية ونتائجها التي فاق عمرها خمسين سنة، ولا يرتبط عهدها بالعهد الجديد كما يصوروا لنا، تستحق هذه الضجة الإعلامية والصخب الذي يملأ أجهزة الإعلام الحكومية والموالية؟
ب) - أما الهجر الممنهج فهو الابن الأكبر للتهجير القصري وهو أخطر ظاهرة تهدد الوطن بالانقراض والاندثار. فالمهجرون تبقى في قلوبهم بذرات الحب لوطنهم وشيء من الحنين إليه وهم في منفاهم، أما الذين يهجرونه لا يكنون له غير الكره والعداء وهم يتمتعون بخيراته ويفسدون في أرضه وخلقه فكيف بهم يحنون إليه وهم يطوفون بلاد الغرب من سويسرا إلى كندا بعدما ينظفون أياديهم من دمائه ويهربوا كل ما نهبوه.


التهجير القصري والهجر الممنهج للمواطنين سفيران فوق العادة للتنمية البشرية الكاذبة ينشران حقيقة وواقع المملكة الشريفة في كل دول العالم.
فاللهم نور بصيرتنا وبصيرة حكامنا واهدنا جميعا لما تحبه وترضاه، ونج وطننا من كيد الكائدين.

محمد المودني

فاس